في مؤتمره الصحافي الذي عقده نهاية الشهر الماضي وخصّصه للحديث عن مشاكل الاقتصاد السوداني في ظل الحرب الراهنة، طرق وزير المالية السوداني الدكتور جبريل إبراهيم موضوعاً مثيراً للجدل والشجون، ألا وهو تفكير البعض في عاصمة بديلة عن الخرطوم. صحيح أنَّ الأمر لم يواجه بعاصفة من ردود الفعل في هذا التوقيت لأنَّ الناس مهمومون ومشغولون بتحديات الحرب التي قلبت حياتهم رأساً على عقب.
قال الدكتور جبريل إبراهيم إنَّ الحكومة تدرس خيارَ بناء عاصمة جديدة، وبرَّر لذلك ببضعة أسباب يمكن إيجازها في الآتي كما وردت في سياق حديثه:
- الدمار الذي أصاب الخرطوم جراءَ الحرب الراهنة وباتت تحتاج إلى بناء وإعمار.
- تقليص الظل الإداري، بمعنى أن تكون العاصمة الإدارية في مكان آخر، هو العاصمة البديلة غير معروفة المكان حتى الآن. أمَّا الخرطوم فيمكن اتخاذها عاصمة تجارية، على رأي الوزير.
- بناء عاصمة جديدة سيكون لخلق فرص وظائف وتحقيق التنمية المتوازنة في السودان.
الغريب أنَّ الوزير عرض هذا الأمر المثير للجدل، الذي يحتاج إلى موارد ضخمة، في الوقت الذي قدَّم فيه صورة قاتمة للاقتصاد السوداني في ظل الحرب قائلاً إنَّ الدولة خسرت 80 في المائة من إيراداتها، وإنَّ الاقتصاد انكمش بنسبة 40 في المائة بنهاية العام الماضي، والنسبة مرشحة للزيادة، بينما الجنيه السوداني واصل انهياره المريع حتى بلغ 1200 مقابل الدولار الأميركي.
اقتراح عاصمة بديلة ليس واقعياً لأسباب كثيرة، منها أن بناء عاصمة جديدة أمر مكلف، ولا موارد للحكومة لتمويله، في وقت ينبغي أن توجه الطاقات والموارد لأولويات أخرى، في إعادة إعمار ما دمرته الحرب. فبناء عاصمة جديدة يعني بناء وزارات ومؤسسات حكومية جديدة ومرافق أخرى كلها تحتاج إلى بنية تحتية مكلفة، وموارد كبيرة لا تتوفر للسودان في هذه الظروف. كما أنَّ مشروعاً كهذا يحتاج إلى عدة سنوات لإنجازه حتى إذا توفرت له الموارد، والبلد لا يمكن أن يبقى بلا عاصمة في انتظار حلم عاصمة بديلة بعيد المنال.
وعندما يقال إنَّ الخرطوم لرمزيتها يمكن أن تبقى العاصمة التجارية، بينما تنتقل العاصمة الإدارية إلى موقع جديد، فإنَّ ذلك يعني أنَّ على الحكومة إيجاد تمويل لعاصمتين؛ واحدة جديدة تماماً بكل مبانيها ومرافقها وبنيتها التحتية، والأخرى القديمة التي تحتاج إلى عملية إعادة بناء وإعمار ضخمة بعد ما عانته من تدمير في الحرب. هذا بالتأكيد تفكير خيالي في بلد ليست لديه الموارد المالية الكافية لا في هذه الظروف الراهنة ولا حتى قبلها.
إعادة بناء الخرطوم ينبغي أن تكون الأولوية، لا بناء عاصمة بديلة. فحتى إذا استبعدنا العقبات المالية واللوجيستية لمشروع العاصمة البديلة، فإنَّ الخرطوم لا يمكن تعويضها أو استبدالها، لا من حيث موقعها المتفرد على ملتقى النيلين الأبيض والأزرق، ولا من حيث مكانتها ورمزيتها كعاصمة قومية. أضف إلى ذلك أنَّ إعادة بنائها ستكون خطوة نفسية ورمزية مهمة لبدء تعافي البلد من كارثة الحرب.
المسكوت عنه في موضوع عاصمة بديلة أنَّ هناك بعض السودانيين لا ينظر إلى الخرطوم كعاصمة قومية، بل يراها من زاوية الحديث المشوه عما يسمى دولة 56 و«دولة الجلابة والشماليين». بلغ التطرف، والتفكير المشحون ببعض هؤلاء، إلى حدّ الرغبة في «محو الخرطوم»، ولو بتدميرها، وهو ما سمعناه للأسف في بعض التسجيلات، أو رأيناه عياناً بياناً في التدمير الهائل الذي حل بها خلال الحرب الراهنة؛ فمنذ اندلاع القتال حدث تدميرٌ ممنهجٌ لكل مقومات الحياة في العاصمة، مع ممارسات انتقامية ضد المواطنين. أُجبر الناس على مغادرة بيوتهم التي نُهب ودُمر أكثرها، واحتل المسلحون أعداداً منها. تعرَّضت المصارف لعمليات نهب منظَّمة من قبل عناصر «قوات الدعم السريع»، وهو نهب امتد إلى المحلات التجارية، ولم تسلم منه حتى الصيدليات. نُهبت أيضاً الشركات والمؤسسات العامة، ودُمّرت المصانع وسُرقت المواد المخزنة وجرى تفكيك الماكينات أو تخريبها، وهي أعمال شاركت فيها أيضاً مجموعات ممن يُسمَّون أهلَ الهامش، أي ممن نزحوا من مناطق أخرى تشكو من التهميش، وعاشوا على الأطراف في هامش المدينة.
وإذا كان الدمار الراهن في الخرطوم تتحمَّل مسؤوليته الأكبر «قوات الدعم السريع»، فإنَّ هناك حركات مسلحة أخرى في دارفور وغيرها شحنت عناصرها بمشاعر عدائية ضد الخرطوم كعاصمة وضد أهل الشمال، واستخدمت هذا الشحن جزءاً من خطابها السياسي، وأداةً للاستقطاب والتجنيد. وهناك مقطع فيديو كان قد انتشر على نطاق واسع في المواقع السودانية قبل بضع سنوات للدكتور جبريل إبراهيم ذاته، وفيه يخاطب أحد مقاتلي حركته، «العدل والمساواة»، الذي كان يهتف منادياً بتدمير الخرطوم وعماراتها، وقال له: «العمارات هذه لا تدمروها... شيلوها (أي خذوها)».
الدكتور جبريل إبراهيم ربَّما كان يتحدَّث وقتها كزعيم حركة مسلحة، بينما يتحدَّث اليوم كوزير للمالية، في ظل ظروف اقتصادية صعبة ودمار هائل سببته الحرب في مناطق واسعة وولايات مختلفة، من بينها الخرطوم. وبغض النظر عن أي طروحات اقتصادية ومالية عن جدوى أو عدم جدوى التفكير في عاصمة جديدة بدل التفكير في إعادة بناء وإعمار الخرطوم، فإنَّ الموضوع يبقى شائكاً من نواحٍ كثيرة. فحتى في الدول التي نقلت عواصمها كان الأمر موضع جدل واسع، من جوانب اقتصادية ومالية، أو من جوانب عاطفية وتاريخية، أو منطقية مجردة من الأهواء السياسية.
وفي الحالة السودانية، فإنَّ الموضوع سيكون أعقد بكثير، لا من ناحية توفير موارد مالية غير موجودة، وإذا وُجدت فإنَّها مطلوبة في أشياء أهم في فترة ما بعد الحرب، بل أيضاً لأنَّ النقاش عن نقل العاصمة لن يكون مجرداً من غشاوة الكلام المستمر عما يسمى دولة 56، وعن هامش ومركز.
الحقيقة أنَّ الخرطوم البوتقة التي تنصهر فيها كل مكونات السودان، وإعادة إعمارها، لا تهميشها أو محوها الأمر الصحيح والمطلوب، في الوقت الذي نبحث فيه عن المعالجات المطلوبة لبناء وطن سليم من كثير من التشوهات الموروثة أو المفتعلة.