بقلم :عثمان ميرغني
«تسعون دقيقة من الفوضى في عام كارثي». هكذا لخصت صحيفة «نيويورك تايمز» المناظرة الأولى بين الرئيس دونالد ترمب ومنافسه في انتخابات الرئاسة المرشح الديمقراطي جو بايدن.
أحد معلقي شبكة «سي إن إن» وصفها بأنها كانت «فوضى ملتهبة داخل حطام قطار وسط حريق القمامة»، بينما عدها معلق آخر أسوأ مناظرة على الإطلاق. أما روبرت غيبس المتحدث الصحافي الأسبق باسم البيت الأبيض إبان إدارة باراك أوباما فقد اكتفى بالقول إن «ما شاهدناه لم يكن مناظرة بل مشاجرة».
هكذا كانت معظم التعليقات على المناظرة التي تحولت منذ الدقيقة الأولى إلى ما يشبه ملاكمة الشوارع، بلا قفازات وبالكثير من التلاسن والتجريح. الذين جلسوا لمتابعتها أملا في سماع مناقشة للسياسات، أو عرض الخطط في كيفية إخراج أميركا من أسوأ أزمة اقتصادية، ومواجهة جائحة فيروس «كورونا» التي راح ضحيتها أكثر من 200 ألف أميركي، أو معالجة الانقسام المجتمعي الحاد وحركة الاحتجاجات على العنصرية وعنف الشرطة، أصابهم الإحباط لأنهم لم يسمعوا شيئا كثيرا من هذا. كل ما سمعوه كان جملا متقطعة، ومقاطعات مستمرة، في عرض أشبه إلى الهرج والمرج منه إلى مناظرة بين رجلين سيختار الناخبون أحدهما رئيسا لأربع سنوات في الانتخابات التي لم يتبق عليها سوى 32 يوما.
الاستياء من هذه المشاهد بلغ حدا جعل بعض المعلقين يدعون بايدن للامتناع عن المشاركة في أي مناظرة أخرى، وهو ما رفضته حملة المرشح الديمقراطي معلنة أنه سيشارك في المناظرتين المقررتين في أكتوبر (تشرين الأول) الجاري.
المناظرة غطت ستة موضوعات حددها كريس والاس مذيع قناة فوكس نيوز الذي أدار المناظرة، وهي جائحة «كورونا»، والاقتصاد، واختيار قضاة المحكمة العليا، ونزاهة الانتخابات، وسجل ترمب وبايدن، وقضية العرق والعنف في أميركا. وإذا كانت «فوكس نيوز» هي قناة ترمب المفضلة، فإن والاس ليس مذيع الرئيس المفضل، فهو ديمقراطي وسبق للرجلين أن خاضا مواجهات في مقابلات سابقة ساخنة. لكن طغيان الملاسنات على المناظرة الذي حرم الناس من أي مضمون ذي معنى، جعل والاس أيضا عرضة لانتقادات شديدة على أساس أنه فشل في ضبط الأمور، مثلما فشل في تصحيح عدد من التصريحات الخاطئة التي وردت في سياق حديث ترمب.
بايدن جاء إلى المناظرة متقدماً على ترمب بسبع نقاط في استطلاعات الرأي، ولم يكن محتاجاً لأكثر من التركيز على القضايا الأساسية التي تشغل الأميركيين مثل الاقتصاد والجائحة وتفادي أي هفوات أو زلات تفقده بعض النقاط. لذلك ورد أنه قضى الأيام السابقة للمناظرة منهمكاً في التحضيرات وقراءة الملفات المختلفة، فهو يفضل المناظرات الفردية خلافاً للمناظرات الجماعية التي ضمته مع المرشحين الآخرين الذين نافسوه العام الماضي للفوز بفرصة الترشح عن الحزب الديمقراطي وكان أداؤه فيها متواضعا. لكن مساعديه ظلوا يشعرون بالقلق من ميله للإطالة في الشرح والخوض في تفاصيل كثيرة في مواجهة خصم شعبوي لا يحب التفاصيل ولا قراءة الملفات، بل يلجأ إلى الهجوم المباشر والمقاطعة المستمرة والعبارات الطنانة بغض النظر عن مدى صحتها، وهو الأسلوب الذي استخدمه بفاعلية مع هيلاري كلينتون خلال المناظرات التي سبقت انتخابات 2016.
ترمب لم يخيب توقعات خصومه، فقد جاء إلى المناظرة وفي ذهنه شيء واحد كما يبدو وهو تحويلها إلى حلبة ملاسنة بمقاطعة منافسه باستمرار لمنعه من الخوض في أي نقاش جاد والدخول في تفاصيل السياسات، والسخرية منه لهز صورته ومحاولة استفزازه عله يفقد أعصابه وتركيزه. ففريق حملة الرئيس الانتخابية استبق المناظرة بمحاولة التشكيك في أهلية بايدن (77 عاما) بالقول إنه بدأ يعاني من الخرف ويستعين بالمنشطات.
ترمب كان يعرف أيضا أنه سيخسر مزيدا من النقاط لو سمح للمناظرة بتركيز النقاش على الأزمات الراهنة لا سيما معالجته لجائحة «كورونا» التي مسحت كل ما تحقق على صعيد الاقتصاد الذي كان يعول عليه، لكي يكون ورقته الرابحة في الانتخابات. أضف إلى ذلك أنه جاء إلى المناظرة وسط ضجة كبرى حول سجله الضريبي فجرتها صحيفة «نيويورك تايمز» التي أعلنت أنها تمكنت من الحصول على السجلات المحاسبية الضرائبية التي خاض ترمب معارك قضائية طويلة لمنع نشرها. واستنادا إلى ما نشرته الصحيفة وتناقلته وسائل الإعلام حول العالم فإن ترمب (74 عاما) لم يدفع أي ضريبة دخل للحكومة الفيدرالية في عشر سنوات من آخر 15 عاما. وفي عام 2016 الذي فاز فيه بالانتخابات الأميركية كان مجموع ما دفعه للضرائب الفيدرالية 750 دولارا، أي أقل مما دفعه أبراهام لينكولن عام 1864 (1279 دولارا بنقود ذلك الزمن)، أو ما دفعه باراك أوباما للضرائب في عام دخوله البيت الأبيض (وهو مليون دولار و792 ألف دولار)، أو جورج بوش الابن الذي دفع 250 ألف دولار، أو بيل كلينتون الذي سدد 62 ألف دولار. كذلك فإن جو بايدن وزوجته دفعا 71 ألف دولار ضرائب عام 2009.
وبالفعل كان موضوع ضرائب الرئيس إحدى النقاط المتفجرة في المناظرة، وسيكون موضع جدل يلاحقه في الأسابيع المقبلة الحاسمة، ليس فقط لأنه كرجل ثري يدفع ضرائب أقل من أي مواطن متوسط الحال، بل لأن هناك من يعتبر أن موضوع دخله من أعمال مشاريعه التجارية في الخارج أو ديونه يشكل تهديدا للأمن القومي الأميركي. فقد أظهرت الوثائق الضريبية التي نشرتها «نيويورك تايمز» أن من بين مصادر دخل أعماله في الخارج خلال أول عامين من رئاسته كانت هناك أموال من عمليات في الخارج في اسكتلندا وتركيا والهند والفلبين، كما أن هناك ديونا لجهات لم توضح فيما نشر من السجلات بمبلغ 421 مليون دولار يتعين سدادها خلال السنوات الأربع المقبلة، وإذا فاز بالانتخابات فإنها قد تصبح ورطة له وقضية محرجة لأميركا. فالوثائق الضريبية التي نشرتها «نيويورك تايمز» تشير إلى أن ترمب فشل في تسديد 287 مليون دولار للدائنين منذ 2010.
المناظرة التي غلبت عليها الملاسنات والمقاطعات لم تتح فرصة لنقاش كل هذه القضايا، وكان رأي الكثير من المعلقين أن أيا من المرشحين لم يحقق اختراقا يذكر، وبالتالي فإن معسكر بايدن ربما يرى أنه كسب الجولة لأن ترمب لم يقدم ما يجعله يكسب قواعد جديدة أو يستعيد الجمهوريين الساخطين الذين انفضوا عنه.
الواقع أن المناظرة المحبطة بكل المعايير كانت تعبيرا عن حال أميركا في اللحظة الراهنة. فوضى سياسية، وانقسام، وعجز وتوتر ومشاحنات. الأخطر من ذلك أنها أعادت تذكير الناس بسيناريو الرعب المحتمل بعد أن لوح ترمب مجددا بأنه قد لا يقبل نتيجة الانتخابات إذا لم تكن في صالحه، وسيلجأ إلى المحكمة العليا للطعن فيها. الرئيس يبدو مستعدا لتقويض النظام السياسي بتشكيكه في نزاهة الانتخابات التي قال مرارا وتكرارا إنها ستكون أكبر تزوير في التاريخ.
أميركا في محنة، والناخبون أمام تحد كبير في انتخابات الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، لا سيما بعد ما شاهدوه في المناظرة الأولى المثيرة للشفقة.