توقيت القاهرة المحلي 20:27:14 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المعادلة الصفرية في السودان

  مصر اليوم -

المعادلة الصفرية في السودان

بقلم : عثمان ميرغني

الأزمة السياسية المحتدمة في السودان هذه الأيام، لو استمرت ستقود حتماً إلى مأساة صنعها السودانيون بأنفسهم لبلدهم. فالأزمة سببها الصراعات على السلطة سواء داخل القوى المدنية، أو بينها وبين المكون العسكري الشريك في السلطة الانتقالية. وفي ظل التجاذبات الحاصلة لو حدث انقلاب عسكري، أو انفجرت حرب أهلية فإن السودان لن يتعافى بسهولة، وستضيع أي مكاسب أو إصلاحات اقتصادية تحققت. ستتوقف أي برامج مساعدات اقتصادية دولية، وأي استثمارات كانت ستحدث. والأخطر من كل ذلك بالطبع أن البلد قد يتفتت وسيصعب لم لحمته مستقبلاً.
رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وضع الأزمة في إطارها الصحيح عندما قال إن الصراع الدائر حالياً ليس بين عسكريين ومدنيين، وإنما بين المؤمنين بالتحول المدني الديمقراطي من المدنيين والعسكريين، والساعين إلى قطع الطريق أمامه من الطرفين. والعبارة المحورية هنا هي قوله «من الطرفين»، ما يعني أن المكون العسكري ليس وحده الذي يريد عرقلة الوصول إلى محطة الانتخابات الديمقراطية.
قد يكون مفهوماً أن فلول النظام السابق يريدون وأد الثورة ويحلمون بالعودة إما عبر تحالفهم مع أطراف في المكون العسكري تريد الانقلاب لو سنحت الفرصة، أو من خلال الدعوة التي تروّج الآن لوفاق موسع، يقصد به عودة الإسلامويين من خلال بعض واجهاتهم القديمة أو بواجهات جديدة. ما ليس مفهوماّ أن تكون هناك أطراف أخرى من الجناح المدني الذي شارك في الثورة تساهم في تأجيج الوضع، وتغامر بصب المزيد من الزيت على نار الأزمة المشتعلة مع المكون العسكري.
الحقيقة أنه على الرغم من تحفظات الكثيرين، وأنا منهم، على صيغة الشراكة بين المكون المدني والعسكري التي ضُمنت في الوثيقة الدستورية، فإن النكوص عنها الآن من أي الطرفين ستكون له عواقب وخيمة. فمحاولة إلغاء أي طرف للآخر ستكون معادلة صفرية، الرابح فيها خاسر، والثمن سيدفعه البلد كله. الحل الوحيد المتاح هو التوصل إلى تفاهمات تضمن الوصول إلى محطة الانتخابات، والمرحلة تحتاج إلى الكثير من الحكمة والمعالجات الحصيفة، لا إلى التأجيج واللعب بنار لن يسلم منها أحد.
أنظروا حولكم وتفكروا فيما حل ببعض دول محيطنا، اسألوا السوريين والليبيين واللبنانيين واليمنيين والصوماليين عما فعلته بهم الحروب، ونزاعات السياسة، وعمى الطموحات التي تفرط في الأوطان. دمار الأوطان سهل، لكن إعادة بنائها صعب، لأن دمار الحروب الحقيقي ليس في المباني والمنشآت، بل في خراب النفوس والجراح والأحقاد التي لا تندمل بسهولة.
لا نريد أن يتمزق السودان أو أن تؤدي الفوضى إلى أن يصبح مرتعاً للإرهابيين الباحثين دوماً عن بيئة خصبة يزرعون فيه خرابهم. هناك عناصر إرهابية توجد بالسودان وقد سبق الحديث عنها ومداهمة بعض العناصر المنتمية لخلاياها. وأول من أمس قتل خمسة من ضباط وجنود جهاز المخابرات بعد مداهمة في حي بجنوب الخرطوم لخلية قيل إنها تنتمي لـ«داعش». هذه مؤشرات خطيرة في ظل حالة من الانفلات الأمني والاضطرابات السياسية وانتشار السلاح.
من واقع إدراك المخاطر المحدقة، دخل المجتمع الدولي على خط الأزمة في محاولة لاحتواء التوتر واستمرار التعاون بين الأطراف المعنية لتحقيق أهداف الفترة الانتقالية وصولاً إلى إجراء انتخابات ديمقرطية بنهايتها. فقد بدأ فولكر بيرتس، رئيس بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس)، تحركات مع المسؤولين من المدنيين والعسكريين بهدف خفض التصعيد ووقف التراشق الإعلامي. وشدد فولكر على أهمية المحافظة على الشراكة بين شركاء الفترة الانتقالية باعتبارها الطريق المتاح لتنفيذ أهداف المرحلة الانتقالية، لأن البديل مواجهات سيكون الخاسر فيها هو البلد.
الإدارة الأميركية أكدت أيضاً التزامها بدعم عملية الانتقال الديمقراطي في السودان، ووجهت عبر رسائل مباشرة وتصريحات من مسؤولين في الحكومة وأعضاء الكونغرس تحذيرات للعسكريين من محاولة تقويض الفترة الانتقالية، قائلة إن أي محاولات انقلابية «ستكون لها عواقب وخيمة على العلاقات الثنائية، والمساعدات التي تخطط واشنطن لتقديمها إلى السودان».
هذه الرسائل فيها دعم واضح للمكون المدني، لكنها في الوقت ذاته تشدد على أهمية المحافظة على صيغة الشراكة التي توافقت عليها الأطراف المعنية في «الوثيقة الدستورية»، لأن النكوص عنها أو الالتفاف عليها من أي طرف ستكون له عواقب وخيمة على البلد، وعلى آمال الانتقال الديمقراطي.
الرسالة باختصار هي أن الانقلاب العسكري مرفوض تماماً من المجتمع الدولي، كذلك فإن النكوص عن الوثيقة الدستورية لا يجد أي تشجيع بالنظر إلى مخاطره التي قد تدفع نحو انقلاب عسكري، أو إثارة نزاعات مسلحة تغرق السودان في مستنقع حرب أهلية واسعة ومدمرة، تفتح أرضه أمام الإرهاب.
هذا الموقف فيه رد على الدعوة غير الواقعية الآن والصادرة من أطراف مدنية لإنهاء الشراكة مع المكون العسكري، وإلغاء الوثيقة الدستورية وإعلان حكم مدني كامل. ذلك أن أي إلغاء للوثيقة سيعطي مبرراً للمكون العسكري وحلفائه الجدد في الحركات المسلحة الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام للتملص من التزاماتهم وتنفيذ انقلاب حقيقي يغرق البلد في متاهة جديدة، ويقود إلى مواجهات ودماء. فالحقيقة أن المدنيين الذين يدعون الآن لإلغاء الوثيقة الدستورية شاركوا فيها، وارتضوا بها، والآن يستخدمونها أيضاً في إطار خلافاتهم التي أضعفت «قوى الحرية والتغيير»، بل وباتت مهدداً للثورة. هؤلاء عليهم أن يعيدوا حساباتهم كي لا يدفعوا الثورة نحو مغامرات خطرة تكون وبالاً على البلد.
أما بالنسبة للمكون العسكري فليس سراً أن أطرافاً فيه لديها حسابات ومطامع مختلفة لا تتفق مع حسابات وآمال الثورة في الانتقال المدني الديمقراطي، ولولا الخوف من رد فعل الشارع والمجتمع الدولي، لانقلب هؤلاء على الثورة التي حاولوا أو على الأقل سكتوا عن محاولة إجهاضها في بداياتها، وصولاً إلى جريمة فض الاعتصام التي حدثت أمام مقر قيادة القوات المسلحة، وسيأتي اليوم الذي تكشف فيه كل خباياها.
السودانيون يحتاجون إلى وقفة جادة للتفكر في مخاطر السكة التي يسير فيها البلد سواء بسبب الخلافات بين قوى الثورة أو الصراعات المحتدمة بين المكونين المدني والعسكري في السلطة الانتقالية. فإما الاتفاق على حلول جذرية لهذه المعارك المتجددة بين المكونين المدني والعسكري، ووضع خطة واضحة، وبرامج محددة بمواقيت زمنية للوصول إلى محطة الانتخابات، أو التوافق على اختصار الفترة الانتقالية والتعجيل بالانتخابات. فالفترة الانتقالية ليست هدفاً في حد ذاتها، بل وسيلة لتهيئة الظروف نحو الانتقال إلى مرحلة المدنية والديمقراطية التي نادت بها الثورة. لذلك لا أفهم منطق الذين يعارضون الدعوة لانتخابات مبكرة تنهي كل هذه الصراعات التي تهدد بتقويض الفترة الانتقالية ذاتها، وضرب كل آمال الانتقال السياسي. الذين يدعون بأن الظروف غير مواتية، إنما يماطلون ويحاولون تبرير الفشل في اتخاذ أي خطوات حتى الآن للإعداد والاستعداد للانتخابات. فالمؤتمر الدستوري لم ينعقد ولا يعرف له موعد حتى الآن، كذلك لم يجرِ أي تعداد سكاني، ولا وضع قانون للانتخابات وتحديد دوائرها. وحتى الآن تبدو الأحزاب، أو فنقل جلها، مشغولة بكعكة سلطة الفترة الانتقالية وبالصراعات بدلاً من أن تنصرف لبناء قواعدها وحشد الناس والتوعية ببرامجها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المعادلة الصفرية في السودان المعادلة الصفرية في السودان



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon