توقيت القاهرة المحلي 03:23:43 آخر تحديث
  مصر اليوم -

البركان الذي يهدد السودان

  مصر اليوم -

البركان الذي يهدد السودان

بقلم :عثمان ميرغني

عن ضبط شبكة إجرامية ومصادرة أسلحة ومتفجرات، تبرر القلق المتزايد من انتشار السلاح لا في العاصمة وحدها، بل في سائر أنحاء السودان. فهذه ليست المرة الأولى التي يكتشف فيها سلاح ومتفجرات، لكنها تأتي في وقت كثرت فيه مناظر السلاح والمسلحين في الشوارع، ويتزايد فيه إحساس الناس بانفلات في الأمن.
السودان محاط بعدد من الدول التي تشهد حروباً، وهو ذاته عانى وما يزال من صراعات داخلية مسلحة، كما نكب بتعدد الجهات الحاملة للسلاح غير القوات النظامية، من حركات مسلحة وأجهزة موازية و«كتائب ظل» في عهد نظام عمر البشير. كل هذا أسهم في انتشار السلاح بكميات كبيرة ووضعه في أياد يمكن أن تستخدمه في حالات ومراحل معينة لزعزعة الأمن وترويع المواطنين.
في ظل هذه الأجواء لم يكن غريباً أن يثير منظر وصول دفعات من قوات الحركات المسلحة المدججة بالسلاح إلى الخرطوم منذ توقيع اتفاقية جوبا للسلام، جدلاً ومخاوف. فالناس يتوقعون بعد السلام رؤية سلاح أقل لا أكثر، وينتظرون أن يؤدي تنفيذ الترتيبات الأمنية إلى جمع السلاح ودمج المجموعات التي يتقرر دمجها من قوات الحركات المسلحة في القوات النظامية واستيعاب المتبقين في وظائف أخرى أو تسريحهم وتعويضهم. لم يتوقع الناس أن يروا أرتالاً من العربات المسلحة والمسلحين يدخلون العاصمة بطريقة استعراضية، ويحتلون ميادين عامة وحدائق لتحويلها إلى معسكرات وثكنات عسكرية.
الأمر الصادم أكثر أنه عندما انتقد الناس هذه الترتيبات رد منتسبون للحركات المسلحة بكلام لا يهدئ المخاوف بل يصب الزيت على النار. كلام مثل ذلك الصادر عن «حركة تحرير السودان» جناح مني أركو مناوي بأن المزيد من قواتهم في طريقها للعاصمة، وأن إقامة معسكرات لها في الميادين والحدائق «تطبيق عملي لاتفاق جوبا للسلام، وجزء هام من تقاسم السلطة والثروة». وذهب الذين تحدثوا باسم الحركة إلى حد وصف من انتقدوا هذه الممارسات بأنهم أعداء للسلام وعنصريون يدافعون «عن مزايا الجلابة».
لا أدري كيف يكون احتلال الحدائق والميادين العامة «جزءاً هاماً» من تقاسم الثروة والسلطة، كما لا أفهم وصم الحديث عن مخاطر تعدد السلاح وتكديسه في العاصمة، بأنه عنصرية ضد مقاتلي هذه الحركات. نحن لا نتحدث عن وجود مواطنين مدنيين، بل عن قوات مسلحة مكانها الثكنات العسكرية لا الميادين العامة والحدائق التي لا يحق في كل الأحوال لأحد أن يضع اليد عليها ويحولها إلى استخدامه الخاص بقوة الذراع أو لأنه يملك السلاح ويعتبر نفسه فوق القانون والمساءلة. استنكار هذه التصرفات والتحذير من كثرة السلاح وتعدد الأطراف الحاملة له، لا عنصرية فيه بل هو منتهى المسؤولية الوطنية، وكان من الأفضل أن يتوخى من تحدثوا باسم بعض الحركات المسلحة المسؤولية ويتجنبوا لغة الاستفزاز والتعبيرات من شاكلة «عاصمة الجلابة» و«وكر الأفاعي». فالعاصمة فيها مزيج من كل أهل السودان ومناطقه ولا مشكلة في ذلك، ولا ينبغي تصوير دخول القوات على أنه «انتزاع لحقوق تاريخية» أو اعتبار انتقاده عنصرية. فالناس يتحدثون عن مخاطر تعدد السلاح وانتشاره بهذه الطريقة العشوائية بغض النظر عما إذا كان حَمَلة السلاح من حركات أو «مسارات» الشمال أو الوسط، الشرق أو الغرب.
الحركات المسلحة تقول إن جلب قواتها إلى العاصمة جاء وفقاً للترتيبات الأمنية المتفق عليها في اتفاقية جوبا للسلام، وهو أمر يحتاج إلى توضيح من الحكومة لأنه من الصعب فهم كيف أن «ترتيبات أمنية» تسمح بمثل هذا الانتشار العشوائي في الأحياء السكنية والميادين العامة. فاستمرار هذا الأمر سيخلق وضعاً أبعد ما يكون عن الأمن، بل سيكون مهدداً له وللاستقرار بشكل عام.
الترتيبات الأمنية بند حساس بلا شك في اتفاقية السلام، ونجاحها أو فشلها ستكون له انعكاسات كبيرة على مستقبل الاتفاق والسلام، وفي وضع السودان الراهن وهشاشة الوضع السياسي القائم، سيترتب عليها الكثير بالنسبة للاستقرار عموماً وللمرحلة الانتقالية الراهنة. فوفقاً لهذه الترتيبات الأمنية يفترض دمج أعداد من مقاتلي الحركات المسلحة في القوات النظامية، أو في وظائف أخرى، وتسريح وتعويض من لا يتم استيعابه. وهذه العملية ستعني توحيد السلاح بحيث يكون في يد القوات النظامية فقط، وجمع أي سلاح آخر من أيدي الناس بما يسهم في حفظ الأمن والاستقرار. أي صيغة أخرى ستعني تعدد القوات الحاملة للسلاح، والتي تدين بالولاء لقيادات ربما تكون لها أجندتها الخاصة التي تضعها على تعارض مع الحكومة أو حتى مع الجيش في لحظة ما، بما يعني احتمال وقوع صدامات، أو أن يتحول السلاح إلى ورقة ضغط ومساومة في الساحة السياسية.
كل تأخير في تنفيذ الترتيبات الأمنية يزيد من احتمالات وقوع مشاكل تهدد الأمن والاتفاق، وربما يجعل بعض قيادات الحركات المسلحة تفكر في صيغة على غرار «قوات الدعم السريع» التي على الرغم من الكلام عن تبعيتها للقوات المسلحة، إلا أنها لها قيادتها وهرميتها الموازية، وتسليحها الخاص، ومواردها واستثماراتها الخاصة أيضاً. فإذا أصبحت هذه الصيغة مسوّدة ونموذجاً للعلاقات مع الحركات المسلحة الأخرى، فإن هذا ليس سلاماً بل هدنة، يمكن أن تنهار عند أول تحدٍ أو خلاف كبير.
الحقيقة أن السودان يجلس على بركان يغلي، ولا مستقبل أو أملاً له إلا إذا ضبط السلاح، وإلا إذا خرج لا من العاصمة وكل المناطق فحسب، بل من الحياة السياسية كلها. الجيش كان يحتكر السلاح في السابق واستخدم هذا الأمر للأسف لكي يقتحم السياسة ويفرض نفسه عليها وينشغل بها أكثر من انشغاله بمهامه الأساسية. اليوم هناك حركات مسلحة تريد أن تشاركه أو تنازعه في الدور السياسي ومقاعد السلطة، وهو أمر يحمل نذر الكثير من المخاطر للسودان. فتعدد السلاح ودخوله في ساحة السياسة يعني الدمار للبلد وما علينا إلا النظر إلى تجارب كثيرة حولنا من لبنان إلى ليبيا، ومن العراق إلى اليمن والصومال.
الحقيقة الأخرى أن السلام لا يفترض أن يكون مطية لطموحات سياسية بل طريقاً للتنمية والاستقرار وبناء دولة ديمقراطية تعالج فيها المظالم والخلافات عبر المؤسسات وبالحوار، لا بالسلاح أو الانقلابات. فالحروب الجهوية لم تحقق تنمية أو رخاء في مناطقها، بل جلبت المزيد من البؤس والتشرد هناك، وأضرت بالبلد ككل. واليوم هناك فرصة يمكن أن تستغلها كل الأطراف لتوظيف السلام لإنجاح الفترة الانتقالية والعبور بها إلى بناء ديمقراطية تسع الجميع، وتتكاتف كل القوى لبناء مؤسسات قوية، تصمد في الاختبارات التي انهارت فيها كل التجارب الديمقراطية القصيرة السابقة، ويتحقق بها الاستقرار المطلوب للتنمية، وهي مفتاح الحل لأكثر المشاكل. الفشل في ذلك سيفتح الباب أمام احتمالات خطيرة في ظل المماحكات والمناورات... ووجود كل هذا السلاح في العاصمة وخارجها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

البركان الذي يهدد السودان البركان الذي يهدد السودان



GMT 05:26 2022 الأربعاء ,17 آب / أغسطس

حول التعديل الوزارى

GMT 19:15 2022 الأربعاء ,20 تموز / يوليو

هل بقيت جمهوريّة لبنانيّة... كي يُنتخب رئيس لها!

GMT 02:24 2022 الخميس ,09 حزيران / يونيو

لستُ وحيدةً.. لدىّ مكتبة!

GMT 19:37 2022 الأحد ,05 حزيران / يونيو

البنات أجمل الكائنات.. ولكن..

GMT 01:41 2022 السبت ,04 حزيران / يونيو

سببان لغياب التغيير في لبنان

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 04:30 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

قائمة الفائزين بـ"جوائز الكرة الذهبية" 2024
  مصر اليوم - قائمة الفائزين بـجوائز الكرة الذهبية 2024

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon