توقيت القاهرة المحلي 03:17:38 آخر تحديث
  مصر اليوم -

السودان... امتحان الحكومة والحركات المسلحة

  مصر اليوم -

السودان امتحان الحكومة والحركات المسلحة

بقلم :عثمان ميرغني

عندما خرج الشباب في ثورتهم بالسودان نادوا بالمدنية هتافاً رئيسياً تعبيراً عن توقهم لحكم مدني ديمقراطي بعد ثلاثين عاماً من حكم البشير العسكري الإخواني. لكن بعد عامين أو أزيد قليلاً، تبرز مخاوف من أن الأمور لو سارت بهذه الوتيرة من التجاذبات والمماحكات التي طبعت الفترة الماضية، فإن الجهات التي تسعى لوأد الثورة ومنع وصولها إلى صندوق الانتخابات قد تنجح في مراميها.
بعد الثورة كان الناس يطالبون بحكومة تكنوقراط من الكفاءات غير المنتمية حزبياً تتولى زمام الأمور خلال الفترة الانتقالية، وقد تحقق هذا الأمر إلى حد ما على الرغم من دخول شخصيات بانتماءات حزبية معروفة أو مستترة. لكن الصراعات والمماحكات بين قوى الثورة المختلفة أدت إلى تشتيتها وفتحت المجال أمام من يريدون وضع العصى في طريق الثورة، وأفشلت جهود الحكومة في معالجة العديد من الملفات الأساسية. أمس أدت اليمين حكومة جديدة جاءت في إطار تنفيذ اتفاقات السلام التي وقعت مع الحركات المسلحة، أو بالأصح مع عدد منها، إذ إن اثنتين من أكبر هذه الحركات لم تنضما إلى الركب بعد.
لكن بدلاً من أن تثير الحكومة الإاتقالية الجديدة أجواء من التفاؤل، فإنها قوبلت بمشاعر غلب عليها الاستياء والإحباط، وهي بالتأكيد بداية غير مبشرة لحكومة تتسلم مهامها في وقت يتصاعد التذمر بين الناس من تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية والأمنية، والشكوى من العراقيل والمماحكات التي منعت تحقيق شعارات الثورة الأساسية. فقد بدا واضحاً للناس أنها حكومة محاصصات بين بضعة أحزاب والحركات المسلحة، وأنها ستفتقد الانسجام، وستعاني من تباين الحسابات، ومن الشد بين شخصيات بعضها لا يستند بالضرورة إلى شرعية الثورة بقدر ما يستند إلى قوة السلاح، وبعضها لا يرى في الثورة أصلاً سوى مطية لتحقيق طموحاته الشخصية أو السياسية.
إذا أخذنا بتصريحات الدكتور جبريل إبراهيم وزير المالية الجديد رئيس حركة العدل والمساواة التي نشرتها صحيفة «السوداني» هذا الأسبوع، فإن رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك فرضت عليه أسماء وزراء حكومته. فقد كشف الدكتور جبريل أن كل الحركات المسلحة المشاركة في الحكومة دفعت باسم واحد لكل وزارة مخصصة لها، وهو أمر مختلف عما حدث في تشكيل الحكومة السابقة عندما قدمت لرئيس الوزراء ثلاثة أسماء لكل وزارة لكي يختار منها. وقال جبريل «لن نقبل بتغيير خياراتنا... ليس من حق حمدوك التدخل في خيارات (حركات) الكفاح المسلح، ونرفض ذلك، ولا أحد يحدد لنا مرشحاً».
هذه اللهجة المستندة إلى قوة السلاح توضح أن الحكومة سائرة حتماً إلى ورطات وأزمات، وأخشى أن تجر السودان أيضاً في طريق محفوف بالمطبات والمخاطر. فإذا كانت الحركات المسلحة ترى أنها تستطيع أن تفرض مرشحيها ولا تقبل المساءلة في خياراتها، فإنها قد تحسب أيضاً أن بمقدورها أن تملي سياساتها وترفض - إن أرادت - تنفيذ إرادة رئيس الوزراء الذي ترى أنه لا يستطيع أن يملي عليها شيئاً.
الدكتور جبريل إبراهيم لم يكتفِ بذلك بل فاجأ الناس بكلام أسوأ. ففي مقطع فيديو جرى تداوله على نطاق واسع قال الرجل في مخاطبة لمجموعة من أنصار حركته إنه لم يقبل بتولي منصب وزير المالية إلا لكي يضمن الأموال التي نص عليها في اتفاق السلام الموقع في جوبا والمقدرة بنحو 7 مليارات ونصف المليار دولار يفترض أن تنفق في مناطق النزاع خلال السنوات المقبلة. الرجل بدا بهذا الكلام وكأنه لا يفكر في منصب وزير المالية من منطلق قومي، ومن منظور أن عليه معالجة مشاكل البلد كله، ورفع المعاناة المنتشرة بين كل الناس وفي كل المناطق.
الدكتور جبريل الذي قال إن هدف حركته هو حكم السودان كله، كان يُفترض أن يتحدث بمنطق من يرى الأمور بمنظور شامل لا بنظرة جهوية، ومن يريد أن يعمل ضمن فريق حكومي يترأسه رئيس الوزراء الذي جاء بشرعية الثورة لا بسند البندقية. المشكلة أن تصريحات الدكتور جبريل غير الموفقة تثير مخاوف الناس من عقلية الميليشيات عندما تشارك في الحكومات، وهو ما عانت منه دول كلبنان والعراق واليمن وليبيا. الدكتور جبريل أو غيره من قادة الحركات المسلحة التي قبلت بخيار السلام، من حقهم أن يطمحوا لحكم السودان، لكن إذا تخلوا عن عقلية حَمَلة السلاح وقبلوا الاحتكام إلى صندوق الاقتراع، وإذا تحلوا بنظرية قومية لا تفرق بين جهة وأخرى، ومواطن وآخر. وحركة العدل والمساواة أكثر من غيرها تحتاج لإثبات هذا الأمر بسبب الظلال والأسئلة الكثيرة التي خلفتها محاولتها غزو أم درمان بالسلاح عام 2008.
السلام لا يتحقق بالمحاصصات، وحل مشاكل التنمية وقضايا التهميش، وتحقيق التوزيع العادل للثروة لا يتم بتوزيع بضعة مناصب وزارية لهذه الجهة أو تلك. وهذه الأمور تجعل الحكومة الجديدة أمام المحك لا سيما في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية والأمنية التي يواجهها المواطن السوداني في كل رقعة من البلد المترامي الأطراف. صحيح أن السلام له استحقاقات والحكومة تحتاج إلى ترسيخ مفهوم التنمية المتوازنة، لكن هذا يتطلب أولاً العبور بالفترة الانتقالية إلى بر الأمان ومحطة الديمقراطية لكي يتفرغ الناس للأهداف طويلة الأمد.
المؤشرات توحي أن الحكومة الجديدة ستواجه مطبات أكثر من سابقتها، وربما يكون الشد والجذب بين مكونات السلطة أشد. فالصيغة التي جاءت بهذه الحكومة أدت أيضاً إلى «عسكرة» مجلس السيادة، بمعنى أن الأغلبية فيه باتت للمكون «العسكري» بعد دخول ثلاثة أعضاء جدد يمثلون الحركات المسلحة. وليس خافياً على أحد حجم الخلافات والتجاذبات بين الجناحين العسكري والمدني في السلطة الانتقالية، وإذا تمكن العسكريون من تحقيق تحالف مع ممثلي الحركات المسلحة فإن العقبات أمام حكومة حمدوك سوف تزداد وكذلك المخاوف على الفترة الانتقالية.
تقديري أنه لا مخرج للسودان إلا بالتوجه نحو انتخابات مبكرة تحسم الخلافات والمماحكات التي أضاعت وقتاً ثميناً وجعلت الأمور تسوء بدل أن تتحسن. في فترة سابقة لم أكن ميالاً إلى فكرة الانتخابات المبكرة على أساس أنها ستشتت قوى الثورة وتثير الخلافات بينها، لكن الظروف تغيرت والواقع الآن يشير إلى أن قوى الثورة في قوى الحرية والتغيير تفرقت بالفعل، والحكومة لم تعد حكومة كفاءات مستقلة بل أصبحت حكومة محاصصات حزبية وميليشياوية. كما أن تمديد الفترة الانتقالية ثبت أنه لا يخدم أهداف الثورة بل يضعفها، وقد يمهد لضربها بعد أن علا صوت الناس بالشكوى من تردي الأوضاع وتزايد الضغوط المعيشية.
الثورات تنطلق مرفوقة بالآمال العريضة والكثير من النيات الطيبة، لكنها لا تستطيع إكمال المشوار وتحقيق شعاراتها بالنيات الطيبة وحدها في بحر السياسة المتلاطم الأمواج. والثورة السودانية التي تتزايد التحديات في وجهها وتتراكم عليها الضغوط، ربما تحتاج الآن إلى اختصار الطريق نحو صندوق الانتخابات قبل أن تقع فريسة للمتربصين بها الذين لا يريدون لها الوصول إلى محطة الديمقراطية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان امتحان الحكومة والحركات المسلحة السودان امتحان الحكومة والحركات المسلحة



GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 23:01 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

ستارمر والأمن القومي البريطاني

GMT 22:55 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حول الحرب وتغيير الخرائط

GMT 22:47 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حرب القرن

ياسمين صبري تتألق بالقفطان في مدينة مراكش المغربية

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 03:53 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا
  مصر اليوم - ترامب يرد على منتقديه في تجمع انتخابي بولاية جورجيا

GMT 04:30 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

قائمة الفائزين بـ"جوائز الكرة الذهبية" 2024
  مصر اليوم - قائمة الفائزين بـجوائز الكرة الذهبية 2024

GMT 19:22 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة
  مصر اليوم - أفكار عملية ومختلفة لتزيين الشرفة المنزلية الصغيرة

GMT 19:05 2024 الثلاثاء ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية
  مصر اليوم - حلا شيحة تكشف عن سبب ابتعادها عن الأعمال الرمضانية

GMT 10:37 2021 الجمعة ,22 كانون الثاني / يناير

تعرف على من هو أحمد مناع أمين مجلس النواب 2021

GMT 06:45 2020 الثلاثاء ,02 حزيران / يونيو

أبرز فوائد فيتامين " أ " على صحة الجسم والمناعة

GMT 09:47 2020 الثلاثاء ,03 آذار/ مارس

عبد المهدي يتخلى عن معظم مهامه الرسمية

GMT 04:22 2019 السبت ,21 كانون الأول / ديسمبر

ريم مصطفى تؤكد أن مسلسل "شديد الخطورة" تجربة مختلفة

GMT 07:44 2019 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

سامي مغاوري يتحدى ابنه في "واحد من الناس" مع عمرو الليثي

GMT 21:05 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

مصرية تطلب الخلع من زوجها وتتفاجئ من رد فعله

GMT 18:29 2019 الثلاثاء ,01 تشرين الأول / أكتوبر

مقتل شخص وإصابة اثنين فى حادث تصادم بالدقهلية

GMT 19:21 2019 السبت ,21 أيلول / سبتمبر

بوسى برفقة حلا شيحة فى أغرب إطلالة لها
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon