بقلم: عثمان ميرغني
في انتخابات الديمقراطيات الغربية يبحث الإعلام عادة عن «اللحظات الفارقة» التي يمكن أن تؤثر على الناخب وتقلب الطاولة على المرشح أو الحزب. فاللحظة الفارقة التي تعطي الإعلام الإثارة التي يبحث عنها قد تكون زلة لسان من مرشح، أو هفوة تعادل كذبة كبرى في برنامج حزب، أو كشف فضيحة، أو أي تصرف مستهجن.
واحدة من هذه اللحظات الفارقة في عام 2010 كلفت رئيس الوزراء البريطاني الأسبق غوردون براون منصبه وأدت إلى واحدة من أسوأ الخسائر الانتخابية لحزب العمال. فخلال جولة عادية في إطار الحملات الانتخابية توقف براون للحديث مع سيدة متقاعدة (65 عاماً) اسمها جيليان دافي، فاجأته بموقف ناقد في موضوعي الهجرة والديون. المحادثة بدت عادية وإن لم تكن مريحة لبراون، وربما كانت ستمر من دون ضجة كبرى، لولا الموقف الذي أعقبها. براون توجه إلى سيارته غاضباً وعاتب كبير مستشاريه بسبب وضعه في موقف محرج وكارثي. وفي نوبة غضبه نسي أنه لم ينزع مايكروفون شبكة قناة «سكاي» التلفزيونية التي كانت تتابع جولته الانتخابية، مما جعل كلامه مسموعاً على الملأ بما في ذلك «اللحظة الفارقة» التي وصف فيها السيدة جيليان، وهي من أنصار حزبه، بأنها «مجرد امرأة متعصبة».
ذلك التصرف مع ناخبة عادية سيطر على الأخبار وتحول إلى فضيحة لرئيس الوزراء الذي اضطر للذهاب إلى السيدة في منزلها ليقدم اعتذاراً، لكنه فشل في إنهاء الضجة أو تغيير صورة سلبية ترسخت عنه في اللحظات الحاسمة قبل التصويت. ورغم وجود عوامل أخرى أسهمت في خسارة براون وحزب العمال، فإن أغلبية وسائل الإعلام اعتبرت تلك القصة «لحظة فارقة» في الانتخابات.
وبما أن بريطانيا تشهد اليوم انتخابات يراها الكثيرون الأهم منذ فترة طويلة لتداعياتها على قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، فقد ظلت وسائل الإعلام تتابع الحملات الحزبية متأهبة في انتظار «لحظة فارقة» تضفي أجواء إثارة قبل توجه الناس للتصويت. هذه اللحظة تمثلت في صورة أحدثت ضجة واسعة لطفل يبلغ من العمر أربع سنوات مصاب بالتهاب رئوي ظل ملقياً على أرض المستشفى في مدينة ليدز البريطانية لنحو ست ساعات بسبب عدم وجود سرير فارغ. منظر الطفل الملقي على الأرض فوق معطف والدته بانتظار الدخول كي يراه الطبيب، أشعل الغضب وركز الأنظار والنقاش بشكل أكبر على أزمة نظام الرعاية الصحية الذي يعاني كثيرا من المشاكل. المستفيد من الضجة كان حزب العمال الذي ركز في حملاته الانتخابية على أزمة نظام الرعاية الصحية متهماً حزب المحافظين بأنه يريد «بيع» بعض الخدمات الصحية لشركات أميركية في إطار أي اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة.
حزب المحافظين وجد نفسه في موقف المدافع، وزادت أموره سوءاً عندما أخفق زعيمه رئيس الوزراء بوريس جونسون في إظهار التعاطف مع الطفل عندما عرض عليه صحافي من قناة «آي تي في» التلفزيونية البريطانية المستقلة الصورة في هاتفه الجوال طالباً تعليقه عليه. إلا أن جونسون رفض النظر إلى الصورة وأخذ هاتف الصحافي ووضعه في جيبه. لكن الصحافي لم يسكت وخاطب جونسون قائلاً: «أنت ترفض النظر إلى الصورة، لقد أخذت هاتفي ووضعته في جيبك، رئيس الوزراء. والدة الطفل تقول لك إن نظام الرعاية الصحية في أزمة، ما ردك على ذلك؟».
فتمتم جونسون «أنا آسف»، وأخرج هاتف الصحافي من جيبه ثم نظر للصورة ووصفها بأنها «فظيعة» قبل أن يعتذر لكل من لديه تجارب سيئة مع نظام الرعاية الصحية.
محاولة جونسون التهرب من النظر للصورة والتردد في التعليق عليها بشكل مباشر أثار انتقادات بالغة في وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقلت وسائل الإعلام الموضوع ونشرت صورة الطفل مع تعليقات، مما دعا وزير الصحة للتوجه إلى المستشفى لكنه قوبل بمتظاهرين غاضبين.
في أي انتخابات بريطانية أخرى ربما كانت الصورة ستحدث تأثيراً أكبر في التصويت اليوم، لكن هذه الانتخابات ليست عادية، فهي انتخابات يطغى فيها «البريكست» على أي موضوع آخر. البلد لم يستطع معالجة الملف ولا احتواء تداعياته منذ استفتاء يونيو (حزيران) 2016. فالسياسيون يتعاركون من دون التوصل إلى نتيجة حاسمة، بينما الاقتصاد يعاني، والشعب منقسم وحائر وغاضب. فهناك إجماع على أن استفتاء عام 2016 أحدث استقطاباً هائلاً وقسم الرأي العام بشكل حاد وأن الطريقة التي صوّت بها الناس سواء لصالح «البريكست» أو للبقاء في عضوية الاتحاد الأوروبي أصبحت تحدد موقفهم الانتخابي أكثر من الولاء الحزبي، وأن هذا الأمر سيكون العامل الأكثر تأثيراً في انتخابات اليوم.
كثيرون في بريطانيا ينظرون بتحفظ إلى المتنافسين الرئيسيين، جونسون وجيرمي كوربن زعيم حزب العمال، ويعتبرون أن الخيار في هذه الانتخابات هو بين «سيئ» و«أسوأ». وفي خطوة تكشف صعوبة الاختيار بين الحزبين، أعلنت صحيفة «فايننشيال تايمز» ومجلة «الإيكونومست» عدم تزكية أي من العمال أو المحافظين، معتبرة أن هذه الانتخابات المصيرية لا تقدم خيارات جيدة. كذلك أعلن رئيسا وزراء سابقان هما جون ميجر (محافظ) وتوني بلير (عمالي) عدم تأييدهما لحزبيهما، داعيْن الناخبين إلى ترك الولاء الحزبي واستخدام أصواتهم بشكل تكتيكي لمنع «البريكست» باعتباره كارثياً على البلد.
المشكلة أنه بغض النظر عن النتيجة، فإن هذه الانتخابات لن تحسم قضية «البريكست» بالسرعة التي يأملها الناخبون الذين ملوا الجدل والتخبط حول ملف يعد الأهم لهذا البلد منذ الحرب العالمية الثانية. فحتى لو فاز جونسون بشعاره الزائف «فلننجز البريكست» وحقق أغلبية كافية، لن يطوى الملف، لأن الخروج سيكون بداية لجدل جديد وانتظار طويل ومعاناة أشد. هناك ما يشبه الإجماع على أن مفاوضات بريطانيا للتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي بعد الخروج ستكون شائكة، وستجرى في أجواء مسمومة قد تجعلها تطول أكثر مما يتوقعه المندفعون والمتفائلون والمخادعون في تيار «البريكست».
أما لو فاز حزب العمال بنتيجة تجعله قادراً على تشكيل حكومة ولو بالتعاون مع الأحزاب الأخرى المؤيدة لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي مثل حزب الليبراليين الديمقراطيين، والقوميين الاسكوتلنديين، والأحزاب الأخرى الصغيرة، فإنه لن يكون قادراً على حسم الملف سريعاً، إذ سيخوض مفاوضات مع الاتحاد الأوروبي للتوصل إلى اتفاق جديد على أن يعرض هذا الاتفاق لاحقاً في استفتاء على الشعب البريطاني ليختار بين اتفاقية الخروج أو البقاء في عضوية الاتحاد.
أزمة «البريكست» التي غيرت وجه السياسة البريطانية منذ استفتاء 2016 لن تنتهي سريعاً وستبقى شروخها ومعاناتها بائنة لفترة طويلة قادمة.