توقيت القاهرة المحلي 11:19:33 آخر تحديث
  مصر اليوم -

عاصمة بديلة عن الخرطوم!

  مصر اليوم -

عاصمة بديلة عن الخرطوم

بقلم - عثمان ميرغني

من التداعيات العجيبة للحرب الراهنة في السودان، أن نسمع حديث بعض الناس في الآونة الأخيرة عن عاصمة بديلة عن الخرطوم، وراج الحديث عن بورتسودان بوصفها عاصمة بديلة بعد انتقال الفريق عبد الفتاح البرهان إليها، إثر خروجه من الحصار في القيادة العامة للقوات المسلحة بالخرطوم، واتخاذه المدينة مقراً له ونقطة انطلاق لتحركاته الداخلية والخارجية. وقد سبقه إليها وزراء ومسؤولون، إضافة لعدد من السفراء ومسؤولي المنظمات الدولية بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب. كما اكتظت المدينة بالهاربين من حرب الخرطوم، وأولئك الذين أرادوها محطة للسفر إلى دول أخرى.

تداخل هذا الحديث أيضاً مع التهديدات الواردة في تسجيل صوتي منسوب لقائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) بأنه إذا شكّل البرهان حكومة جديدة من مقره الحالي في بورتسودان، فإن قوات «الدعم السريع» ستعلن حكومة في مناطق سيطرتها في الخرطوم. وزاد الأمر تعقيداً بعد الاشتباكات المحدودة التي وقعت يوم الاثنين الماضي في بورتسودان بين القوات المسلحة وأفراد مسلحين تابعين لميليشيا يقودها شيبة ضرار، القيادي في قبيلة البجا ورئيس «تحالف أحزاب شرق السودان»، بعدما حاولت عناصر منها نصب نقطة لتفتيش الشاحنات والسيارات، الأمر الذي استدعى تدخل الجيش لمنعها.

بغض النظر عن التزامن والترابط بين هذه التطورات، فإنها تبقى رسالة سالبة في منحنى هذه الحرب التي إن نظرنا لتراكم تعقيداتها فإنها قد تطول، أما إذا أخذنا بالتصريحات الأخيرة للفريق ياسر العطا، مساعد القائد العام للقوات المسلحة، فإنها في مراحلها الأخيرة.

في كل الأحوال فإن الكلام عن حكومتين وعاصمتين لا يعدو أن يكون في تقديري سوى ورقة من أوراق الضغط والشد والجذب والمناورات المصاحبة لمراحل هذه الحرب. ليس هناك أي مقومات حقيقية تجعل تشكيل حكومة لقوات «الدعم السريع» في الخرطوم أمراً قابلاً للتنفيذ على أرض الواقع. فعلى الرغم من وجودها في مناطق وأحياء عدة في مدن العاصمة الثلاث، وبشكل خاص في الخرطوم والخرطوم بحري، فإن قوات «الدعم السريع» لا تسيطر على العاصمة كلها، ولا تملك مقومات تجعل أي حكومة تعلنها قابلة للحياة على أرض الواقع. فمَن من القوى السياسية الفاعلة يمكن أن يشارك في مثل هذه الحكومة، وفي ظروف كهذه ستجعل المشاركة انتحاراً سياسياً لكل مَن يقدم عليها؟

الأمر الثاني أن أي حكومة كهذه لن تكون لديها القدرة على أن تعمل من دون مقار معلومة، وبنية تحتية، وقبول شعبي. أضف إلى ذلك أنها ستكون في مرمى نيران الجيش، ما سيجعلها حكومة على الورق، وفضاءات الإنترنت وغرف الدردشة في وسائل التواصل الاجتماعي، أكثر منها مؤسسة حقيقية على أرض الواقع.

بعض المتداولين للكلام عن حكومتين وعاصمتين، يشبّهون هذا الأمر بما جرى في اليمن بعدما سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء، وأصبحت عدن مقراً للحكومة الشرعية المعترف بها دولياً. لكن الفارق كبير بين وضع بورتسودان كمقر مؤقت للحكومة السودانية وبين حالة صنعاء وعدن اللتين كانتا تاريخياً عاصمتين لدولتين قبل الوحدة في 1990.

الخرطوم تبقى هي العاصمة في وجدان السودانيين، ولا أحسب أن هذا الأمر سيتغير في هذه الظروف بسبب مناورات سياسية، ولا حتى بسبب الدمار الهائل الذي حلّ بها. الخرطوم ستنهض بلا شك بعد أن تنتهي الحرب، لتبدأ المسيرة الشاقة لإعادة الإعمار ومعالجة جروح الحرب، وهي كثيرة.

هيروشيما وناغازاكي دُمرتا بالقنبلة النووية في الحرب العالمية الثانية، وأعاد اليابانيون بناءهما لتصبحا رمزاً للأمل والصمود في وجه المحن.

برلين دُمرت وقُسمت في الحرب العالمية الثانية، وأعيد بناؤها في الشطرين الغربي والشرقي، قبل أن يُعاد توحيدها بعد سقوط الجدار الفاصل عام 1989.

بغداد استباحها المغول بقيادة هولاكو ودمروا معالمها ونهبوها وحرقوا مكتباتها وقتلوا أهلها، وتعرضت للاحتلال نحو 20 مرة، لكنها لم تمت بل كانت تنهض من تحت الركام لتبقى. بيروت كذلك تعرّضت للتدمير أكثر من مرة، وأُعيد بناؤها. والتاريخ حافل بأمثلة المدن التي عُمرت بعد أن دُمرت، مثل ستالينغراد ووارسو وسراييفو، أو قطعت شوطاً في إعادة بنائها مثل الموصل وحلب ومقديشو.

قناعتي أن الخرطوم أيضاً ستعود بجهد أهلها، الذين صمدوا فيها على الرغم من الظروف القاسية والمعاناة الشديدة، أو الذين غادروها مجبرين ولا يفكرون في شيء سوى لحظة عودتهم إليها، وإلى بيوتهم على الرغم من الدمار. فهي من نوع المدن التي لا يمكن استبدالها لرمزيتها ودلالاتها التاريخية والسياسية والاجتماعية والجغرافية. وهي مركز البلد والبوتقة التي تنصهر فيها كل مكوناته، وميادينها وشوارعها بأسمائها ورمزيتها تحمل الكثير من ذاكرة وتاريخ السودان. وعلى الرغم من الدمار الهائل الذي طاولها، فإن إعادة إعمارها سيكون في تقديري خيار معظم السودانيين الذين ارتبطوا بها وبموقعها المتفرد عند ملتقى النيلين الأزرق والأبيض.

الإعمار بعد الحرب قد يكون فرصة لمعالجة مشاكل المدينة المزمنة، وتصحيح بعض التشوهات، وترميم البنى التحتية المتآكلة، والنظر في الآثار السالبة للتمدد الأفقي، ولبحث توزيع الخدمات بصورة أفضل، وكيفية مواجهة الاكتظاظ السكاني المستمر، والنزوح غير المنضبط القادم من دول الجوار. وسيكون مفهوماً مثلاً أن يتحدث الناس عن الاستفادة من دروس الحرب لتوزيع المصانع على مدن البلاد المختلفة بدلاً من تكديسها في الخرطوم. مثل هذا التفكير سيخلق فرص عمل واستثمار في مدن أخرى، وسيكون عامل أمان أيضاً للبلد واقتصاده، بحيث لا يشل مثلما حدث في الحرب الراهنة، عندما توقفت عجلة الإنتاج الصناعي أو جله عندما دُمرت ونُهبت المصانع المتكدسة في العاصمة.

أما الحديث عن عاصمة بديلة فلا يبدو واقعياً أو منطقياً، وهو قراءة خاطئة للانتقال المؤقت للبرهان وعدد من الوزراء والمسؤولين إلى بورتسودان. فهذا الانتقال تم لأن بورتسودان شكّلت بمينائها ومطارها منفذاً نحو العالم، وهو ما لا يتوفر في مدينة ود مدني مثلاً، وليس لأن السودانيين توقفوا عن رؤية الخرطوم عاصمة طبيعية لبلدهم... على الرغم من محنتها ومحنتهم الراهنة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

عاصمة بديلة عن الخرطوم عاصمة بديلة عن الخرطوم



GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 07:57 2024 الأحد ,21 تموز / يوليو

رصاصة النجاة

إطلالات الأميرة رجوة الحسين تجمع بين الرقي والعصرية

عمان ـ مصر اليوم

GMT 09:11 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة
  مصر اليوم - إطلالات ميغان ماركل في 2024 جمعت بين الرقي والبساطة

GMT 11:23 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة
  مصر اليوم - نصائح قبل شراء طاولة القهوة لغرفة المعيشة

GMT 04:54 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة
  مصر اليوم - الجيش السوري يعلن وصول تعزيزات كبيرة لمدينة حماة

GMT 10:32 2024 الأربعاء ,04 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها
  مصر اليوم - ياسمين رئيس في لفتة إنسانية تجاه طفلة من معجباتها

GMT 11:08 2024 الثلاثاء ,03 كانون الأول / ديسمبر

الكشف عن قائمة "بي بي سي" لأفضل 100 امرأة لعام 2024
  مصر اليوم - الكشف عن قائمة بي بي سي لأفضل 100 امرأة لعام 2024

GMT 23:04 2020 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

رونالدو يحرز الهدف الأول لليوفي في الدقيقة 13 ضد برشلونة

GMT 06:59 2020 الأربعاء ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تونس تتأهل إلى نهائيات "أمم أفريقيا" رغم التعادل مع تنزانيا

GMT 05:53 2020 الأحد ,01 تشرين الثاني / نوفمبر

موضة ألوان ديكورات المنازل لخريف وشتاء 2021

GMT 09:41 2020 الخميس ,29 تشرين الأول / أكتوبر

حسام حسن يعلن قائمة الاتحاد السكندري لمواجهة أسوان

GMT 03:51 2020 الأحد ,18 تشرين الأول / أكتوبر

وزير الدفاع يشهد المرحلة الرئيسية للمناورة ”ردع - 2020”

GMT 04:56 2020 السبت ,24 تشرين الأول / أكتوبر

فنادق تعكس جمال سيدني الأسترالية اكتشفها بنفسك

GMT 23:44 2020 الأربعاء ,09 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تغلق التعاملات على تباين

GMT 11:46 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

جوارديولا يهنئ ليفربول بـ كأس الدوري الإنجليزي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon