بقلم: عثمان ميرغني
مع انشغال الناس بأخبار التعيينات لمجلس السيادة، وبعدها الترشيحات لمجلس الوزراء، وكذلك بأخبار السيول والفيضانات، تفاقمت بشكل مخيف الاشتباكات «القبلية» في مدينة بورتسودان شرق البلاد، التي سقط فيها استناداً إلى الأرقام المعلنة حتى أمس 37 قتيلاً، بينما جرح أزيد من 200 شخص، بينهم أطفال. مقاطع الفيديو التي جرى تداولها عبر وسائط التواصل الاجتماعي كانت مقلقة للغاية، إذ سجلت إشعال الحرائق في المنازل، وتدمير الممتلكات، وأناساً يجوبون الشوارع مسلحين بالسكاكين والعصي، مرددين كلاماً ينضح بالكراهية ويحفز على الانتقام والقتل والتدمير.
السلطات أكدت أيضاً استخدام أسلحة نارية في الاشتباكات بين أبناء قبيلتي البني عامر والنوبة، وسقوط ضحايا بالرصاص، مع ضبط أسلحة واعتقال أشخاص كانوا يهربون أسلحة لإخفائها في بعض المنازل لاستخدامها في تأجيج الصراع الآن أو مستقبلاً.
هذه الاشتباكات قد تبدو في نظر البعض محدودة، ومحصورة في أحياء معينة، ويمكن تجاوزها، لكن الصورة في الواقع تبدو مخالفة لمثل هذا التهوين والتبسيط. ذلك أن بعض أبناء المنطقة يحذرون من إمكانية تفاقمها وتوسعها، بانضمام أطراف أخرى للصراع، ما يوسع الحرب القبلية ويثير مخاوف حرب أهلية في الشرق، على غرار ما حدث في دارفور. فهناك نداءات صدرت في رسائل صوتية تدعو أطرافاً بعينها للتدخل، وتحثّ قبائل أخرى للتحرك، وبعضها كان يحذر السلطات في الخرطوم، سواء في مجلس السيادة الجديد أو الحكومة التي لم تتشكل وتتسلم أعباءها بعد، من أن عدم التدخل الحاسم لإطفاء الفتنة ووقف الاعتداءات على الناس وحرق الممتلكات، سيؤدي إلى تمدد الاشتباكات وتحولها إلى نزاع مسلح كبير، يضاف إلى أوجاع النزاعات الأخرى في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
أضف إلى ذلك أن تداعيات أي نزاع كبير ستؤثر على دول الجوار، لأن البني عامر لهم امتدادات من السودان إلى آريتريا ومصر.
الواضح أن هناك جهات استغلت الفراغ الحكومي الحاصل في السودان منذ اندلاع الثورة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. ففي مايو (أيار) الماضي، اندلعت اشتباكات في مدينة القضارف شرق البلاد بين البني عامر والنوبة قتل فيها 7 أشخاص، وجرح 22 إثر مشادة بين امرأة من النوبة وبائع مياه من البني عامر، سرعان ما تطورت وتدخل فيها آخرون من الطرفين. ونجحت السلطات والوساطات في فضّ الاشتباكات وتهدئة الأوضاع في المدينة، على الرغم من اتهامات لأجهزة الأمن في الولاية بالتقصير والتأخر في التدخل. يومها أصدر «تجمع المهنيين» بياناً اتهم فيه «الثورة المضادة» بالوقوف وراء تأجيج الأوضاع، مشيراً إلى تقارير عن تحرك ملثمين يحملون السلاح الناري إبان الأحداث. الأمر الذي اعتبره مؤامرة من بقايا نظام البشير والإسلامويين لتأجيج الفتن بهدف ضرب الثورة.
الأمر الذي أثار القلق أكثر من أن اشتباكات أخرى وقعت في خشم القربة بولاية كسلا، قبل أن تنتقل إلى بورتسودان، ميناء السودان الرئيسي، وعصب اقتصاده، في بداية يونيو (حزيران) راح ضحيتها 40 من البني عامر، و12 من النوبة. الصلح الذي عقد وقتها لم يصمد طويلاً مع اندلاع الاشتباكات الأخيرة في المدينة التي دقت ناقوس الخطر من مغبة تطور النزاع وتوسعه ليشمل ولايات الشرق الثلاث، ولا سيما مع الحديث عن انتشار السلاح بواسطة أطراف موالية للنظام الساقط، وعبر الحدود من آريتريا، وأحياناً من إثيوبيا.
من الذي يريد إشعال الفتنة؟
هناك توترات واحتكاكات قبلية وعنصرية وجهوية لا يمكن إنكارها بين البني عامر وبعض قبائل الشرق، التي ترى في النوبة وافدين، بعضهم منذ زمن طويل، وبعضهم نتيجة الحروب والجفاف في جنوب كردفان ومناطق أخرى في الغرب. هذه النظرة غير مبررة بالطبع، لأن أي مواطن سوداني يفترض أن يمكنه التنقل في بلده كيفما شاء، ويقيم حيثما أراد، فهذا حق أصيل من حقوقه كمواطن. وعندما يكون الأمر غير ذلك، معناه أننا فشلنا في بناء دولة المواطنة والحقوق المتساوية، وهذا واقع موجود للأسف، لا في السودان وحده، بل في دول أخرى كثيرة تنهشها النزاعات، لأسباب إثنية، أو طائفية، حتى نتيجة التهميش والتنمية غير المتوازنة.
هذه التوترات تغذيها أيضاً أطراف أخرى لحساباتها الخاصة، وربما تستغلها جماعات موالية للنظام السابق تحشد لتقويض الاستقرار وضرب الحكومة الانتقالية. وكانت كميات من الأسلحة قد ضبطت في المنطقة، وسط تقارير تتحدث عن عمليات تسليح لبعض القبائل بدأت منذ فترة، مع تخزين كميات من السلاح لاستخدامها في تأجيج الصراع. وضبطت أيضاً أسلحة مهربة عبر الحدود مع آريتريا، وهو الأمر الذي كان محور اتصالات بين البلدين. وكان لافتاً أن الأجهزة الأمنية في بورتسودان أعلنت ضبطها سيارة تحمل أسلحة يقودها شخص «ينتمي لجبهة من دولة مجاورة» ومعه شخص آخر مسلح، اتضح أنهما كانا في طريقهما لتخزين الأسلحة في أحد المنازل لاستخدامها في تأجيج الصراع.
لمواجهة النزاع المتطور، زار وفد من مجلس السيادة بورتسودان، كما أعلن عن إقالة والي البحر الأحمر العسكري، ومدير جهاز المخابرات العامة بالولاية، مع فرض حظر التجول وإرسال قوات من الخرطوم لدعم القوات المحلية في مواجهة الأحداث ومنعها من التوسع. وعلى الرغم من ذلك برزت انتقادات للسلطات بأنها تلكأت في التصدي للأحداث، ما سمح بتوسعها، وقاد إلى التحذيرات بأنه إذا لم تتم السيطرة على الأمور، فإن الاشتباكات قد تتطور بشكل يقود إلى حرب واسعة في الشرق.
الموضوع برمته أصبح امتحاناً مبكراً للحكم الانتقالي، وسيكون بالضرورة في قائمة أولويات حكومة رئيس الوزراء الجديد عبد الله حمدوك. فإضافة إلى فرض الأمن بسرعة، تحتاج الحكومة إلى إجراءات لجمع السلاح، وملاحقة الأطراف التي تسعى إلى تأجيج الفتنة وتوسيع الاشتباكات، مع العمل مع القيادات الأهلية المحلية لعقد صلح بين البني عامر والنوبة والعمل على تثبيته. ستحتاج الحكومة حتماً إلى النظر في خلفيات الأزمة ومعالجة جذورها، وربما دراسة المقترحات التي تقول بفصل الأحياء المتجاورة التي كانت بؤرة الاشتباكات.
الثورة السودانية الطموحة رفعت شعارات نبذ العنصرية، ونادت بإنهاء الحروب، وتحقيق السلام والمساواة والعدالة الاجتماعية في ربوع السودان. وفي الوثيقة الدستورية التي جرى التوقيع عليها في شكلها النهائي في 17 من الشهر الحالي، أفرد فصل كامل لقضايا السلام الشامل، ووضعت مهمة تحقيق السلام العادل والشامل وإنهاء الحروب الداخلية على رأس مهام الحكومة الجديدة، على أن ينجز خلال الأشهر الستة الأولى من بدء عملها.
الامتحان كبير، والمهمة شائكة مع تعدد الحروب ومناطق النزاع من دارفور إلى جنوب كردفان والنيل الأزرق، والأزمة التي بدأت تطل في الشرق. ولا أمل للسودان في التغلب على مشكلات التنمية من دون بسط الأمن والاستقرار، وإنهاء الحروب ومعالجة جذورها... والعمل على بناء دولة المواطنة الحقة. أحداث بورتسودان تذكير بأن هذه الملفات لا تحتمل التأجيل.