بقلم: عثمان ميرغني
ملف وقف الحروب وتحقيق السلام في السودان، على أهميته، فإنه بدأ يثير الإحباط والتساؤلات في أوساط الناس. فالحكومة السودانية التي وضعت السلام على رأس أولوياتها حشرت نفسها في زاوية ضيقة عندما حددت بتفاؤل مفرط فترة ستة أشهر لتحقيق هذا الهدف الذي، إن كان يلوح في الأفق، لا يبدو في متناول اليد حتى اللحظة. التفاؤل ربما كان منبعه قناعة بأن الحركات المسلحة ستركب فوراً قطار الثورة ولن تكون هناك عقبات أو مماحكات تمنع التوصل إلى اتفاقات سريعة تزف البشرى للشعب السوداني وتفتح الطريق للتركيز على مهمة انتشال البلد من الدرك الذي تردى إليه في عهد النظام الساقط، والعمل على معالجة جبل المشاكل الموروثة. لكن كل الجولات التي انعقدت حتى الآن للتفاوض لم تحقق الاختراق المطلوب، فمن المسؤول عن ذلك؟
الحركات المسلحة ألقت المسؤولية صراحة أو مواربة على حكومة المرحلة الانتقالية، وهنا العلة. فقد كان الأجدر بهذه الحركات أن تترجم كلامها وبياناتها عن أنها جزء من الثورة التي أطاحت نظام عمر البشير والإسلامويين، إلى أفعال ملموسة بحيث تعمل لتسريع وتيرة المفاوضات وإعلان السلام، ومن ثم تنطلق مع الحكومة الانتقالية لإنجاح هذه المرحلة، وتسخير كل الجهود من أجل الاستقرار والبناء والنماء. لكن الذي حدث هو أن الحركات تفاوضت بطريقة عقدت الأمور ولم تسهلها، مما أعطى الناس انطباعاً أنها تتصرف كخصم لا كطرف شريك في الثورة، وأنها تبدو وكأنها لم تتحرك من محطة الماضي ووتيرة المفاوضات مع النظام السابق. بل إن بعض هذه الحركات، بدا للناس وكأنه يتشدد في المطالب ويناور من أجل حصة أكبر في محاصصات المناصب متعامياً عن أنه ليس هناك كعكة لاقتسامها في الواقع، بل جبل من المشاكل الموروثة التي لن تحل إلا إذا تضافرت الجهود وتلاقت الإرادات، والتفت حول مفهوم أن هذه الثورة التي جعلت شعارها «حرية... سلام وعدالة»، جاءت تعبيراً عن الناس في كل الأقاليم وترجمة لمعاناتهم على مختلف أشكالها، وتعبيراً عن تطلعهم لمستقبل أفضل في بلد آمن مستقر، تستنفر الطاقات فيه للبناء والتنمية في كل ربوعه.
التأخر في حسم ملف السلام فتح الباب أمام المتربصين بالثورة وما أكثرهم، كما أنه سمح بظهور مشاكل جديدة وصراعات تغذيها أطراف تنفخ في العداوات القبلية والجهوية. فبعد الأحداث الدموية في شرق السودان، شهدنا مواجهات أوقعت بدورها كثيرا من الضحايا في غرب البلاد. ومع خواتيم العام المنصرم وإطلالة 2020 وقعت اشتباكات دموية ذات طابع قبلي في مدينة الجنينة بولاية غرب دارفور راح ضحيتها أكثر من أربعين قتيلاً حسب التقارير الأولية حتى أمس. ومثلما هو الحال في مثل هذه الأجواء تحركت بعض الأطراف للشحن القبلي والنفخ في الجهوية والعنصرية، فصدرت بيانات بأسماء كيانات تلوح بأن قبيلة المساليت تملك وفقاً لوثيقة تعود إلى عام 1919 حق تقرير المصير وأنها تطالب بإحياء تلك الاتفاقية. مثل هذه البيانات التي لا يستطيع أحد الجزم بمدى صدقيتها، لا سيما أنها لم تكن ممهورة بتوقيعات شخصيات معروفة، تهدف بلا شك للنفخ في النار المشتعلة، وللانتقال بالقضية من المشاحنات المحدودة، إلى ساحة أخطر تتمثل في التلويح بإعادة عقارب التاريخ إلى الوراء قرناً كاملاً لنبش المطالبة بحق تقرير المصير، علماً بأن المساليت اختاروا في الاتفاقية المشار إليها البقاء في السودان لا الانضمام إلى دولة مجاورة ولا إعلان كيان مستقل.
الذين يثيرون مثل هذه المطالب قد تكون لديهم مخاوف أو مظالم مشروعة، يخطئون في طرح كيفية معالجتها، أو أنهم قد يكونون من أولئك الذين يسعون لتأجيج المشاكل والصيد في الماء العكر بغية تحقيق بعض المنافع والمآرب. فليس كل الذين رفعوا لافتات التهميش أو انضموا للحركات المسلحة كان همهم الوحيد هو إزالة المظالم وتحقيق العدالة والمساواة، فهناك نماذج من بين الذين فاوضوا النظام السابق مثلاً وحصلوا على المناصب والمنافع، بينما بقيت أوضاع الناس في مناطقهم على حالها إن لم تزد سوءاً.
المؤسف أن الاشتباكات الدامية في الجنينة ألقت بظلالها على أجواء ومفاوضات السلام، وأدت إلى تعليق المفاوضات ما يعني المزيد من التأخير، وبالتالي يجعل هدف تحقيق السلام في الأشهر الستة من عمر الحكومة الانتقالية أقرب إلى المستحيل. المسؤولية في هذا التأخير لا تتحملها الحكومة الانتقالية، كما تقول الحركات المسلحة، بل يتحملها الطرفان ربما بالقدر ذاته، وإلا فلا معنى لكلام الحركات ذات الوزن في مناطق النزاع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق عن أنها شريك في الثورة وجزء من «قوى الحرية والتغيير». من هذا المنطلق فإن هذه الحركات عليها مسؤولية في إنجاح الفترة الانتقالية والعبور بها إلى بر الانتخابات الديمقراطية، وهذه المسؤولية تحتم الإسراع بتحقيق السلام والانخراط في هياكل الحكم والمشاركة في جهود البناء والتنمية.
بالنسبة للحكومة فإن تأخر ملف السلام له انعكاساته على ملفات أخرى أهمها الاقتصاد علماً بأن الملفين (السلام والاقتصاد) سيحددان أكثر من أي شيء آخر مسار ومصير الثورة. فكل الأنظمة في سودان ما بعد الاستقلال سقطت بسببهما، مجتمعين أو منفردين. الحادبون على الثورة يعرفون ذلك، والناس يأملون بأن تكون الحركات المسلحة من هؤلاء الحادبين، مثلما أن المتربصين يعرفونه وسيسعون لصب الزيت على النار. في انتظار تحرك ملف السلام، فإن الحكومة ليس أمامها سوى مضاعفة الجهود لمعالجة الملف الاقتصادي والالتفات لأهمية الحلول الخلاقة للتنمية الذاتية وتوظيف الموارد المحلية، بدلاً من انتظار القروض والمعونات الخارجية. فمثلما ينعكس السلام على الاقتصاد، فإن العكس أيضاً صحيح.