توقيت القاهرة المحلي 22:20:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الحروب الرمادية

  مصر اليوم -

الحروب الرمادية

بقلم:عثمان ميرغني

من الصعب النظر إلى الحرب في أوكرانيا بمنظار أسود وأبيض فقط. الصورة فيها الكثير من الرمادية، والتقاطعات في الحسابات الآنية والمستقبلية.

من ناحية مبدئية، اجتياح دولة لدولة أخرى أمر مرفوض، ويكون الأمر أسوأ إذا كان هناك طرف قوي مثل روسيا يستغل وضعه هذا ويهدد العالم بالسلاح النووي إذا تدخل أحد لاعتراض اجتياحه. لذلك مهما كان هناك من يتعاطف مع مظالم روسيا وشكواها منذ أمد طويل من أن الغرب لم يلتزم بتعهدات قطعها عند انهيار الاتحاد السوفياتي بعدم تمدد حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاقتراب من حدودها بشكل يصبح تهديداً مباشراً لها، فإن هذا الأمر لا يبرر لها اللجوء إلى القوة وغزو أوكرانيا وإعادة رسم الحدود. ومثلما كان غزو الكويت عام 1990 والمنطق الذي ساقه نظام صدام حسين لتبرير العدوان مرفوضاً، ينطبق الأمر ذاته، في تقديري، على الغزو الروسي لأوكرانيا.
بخلاف هذه النقطة في الرفض المبدئي للعدوان، هناك الكثير من النقاط الرمادية في الحرب الراهنة وتداعياتها الكثيرة. وبينما يقول البعض إن الحرب الأوكرانية أحيت الحرب الباردة، فالواقع أن العالم غادر تلك المرحلة إلى نوع جديد من الحروب.
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق ونهاية الحرب الباردة، برزت تعبيرات ومفاهيم أخرى لتعريف النزاعات المستمرة بين الأقطاب الدوليين، مثل تعبير «الحرب الرمادية» الذي يشار إليه أحياناً باسم حرب المنطقة الرمادية. فهذه الحرب لا تأخذ طابع النزاع التقليدي المسلح، لكنها ترمي إلى تحقيق أهداف تضعف الطرف الآخر. وتشمل الحروب الرمادية مجالات مثل هجمات الفضاء الإلكتروني، وأعمال التجسس، وسرقة المعلومات العسكرية والصناعية، وحروب المعلومات والأخبار المفبركة في منصات الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وأي عمليات «سرية» أخرى لا تصل إلى العدوان المسلح المباشر. الخطورة في أن مثل هذه الأعمال التي تدور في «المناطق الرمادية» قد تدفع بالتوترات قريباً من نقطة الاشتعال لأن ما قد يراه شخص ما على أنه «ضغط مقبول»، قد يفسره شخص آخر بأنه عمل عدواني وتهديد مباشر يرقى إلى مرتبة «الحرب الساخنة».
الحروب الرمادية كانت وما تزال تدور بين الدول وبشكل خاص بين الدول الغربية من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى. لكن الحرب الأوكرانية، نقلت الصراع بين الغرب وروسيا إلى مرحلة أخرى أكثر خطورة ووضعتهما في منطقة قد تقود إلى حرب مباشرة كارثية. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين لوّح بسلاحه النووي في وجه الغرب إذا تدخل لمنعه من تحقيق أهدافه وتمدده، والتحدي بالنسبة للغرب هو كيف يتصدى لموسكو وعدوانها من دون أن ينجر إلى إشعال حرب عالمية ثالثة.
السلاح الذي لجأ إليه الغرب هو الحرب الاقتصادية بفرض عقوبات قاسية على روسيا لإرباك اقتصادها وإضعاف قدرتها العسكرية، على أمل أن تقود هذه الضغوط إلى تأجيج المعارضة الداخلية لبوتين. وإذا أخذنا بالتصريحات الغربية فإن هذه الحرب ستكون طويلة لأن تأثير العقوبات يشتد مع مرور الوقت. أما على الصعيد العسكري فإن الدول الغربية سارعت إلى إمداد أوكرانيا بكميات كبيرة من الأسلحة المتطورة كي تدافع عن نفسها وتجعل كلفة الحرب باهظة لبوتين. والهدف هو إرباك حسابات بوتين وإغراقه في حرب استنزاف طويلة، تنهكه وتضعف اقتصاد روسيا وبالتالي قدراتها العسكرية.
الرئيس الروسي عند تخطيطه لاجتياح أوكرانيا ربما اعتمد على أن جيشه يستطيع تحقيق انتصار سريع على الجيش الأوكراني الأصغر حجماً وأضعف عتاداً، وبالتالي يحقق أهدافه بأقل الخسائر. وربما راهن أيضاً على أن الناتو في حالة وهن شديد بسبب مواقف الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، والخلافات بسبب الطريقة التي انسحب بها جو بايدن من أفغانستان. ولكي يضمن أكثر أن الناتو لن يرسل قوات لمساعدة أوكرانيا فقد لوّح عدة مرات بالسلاح النووي. إضافة إلى ذلك راهن على أن بعض الدول الأوروبية التي تعتمد بشكل كبير على النفط والغاز من روسيا ستكون مترددة في الانضمام للدول التي تطالب بفرض عقوبات صارمة.
لكن ما حدث بعد اجتياح أوكرانيا قلب الحسابات الروسية رأساً على عقب. فالأسلحة الغربية مكّنت الجيش الأوكراني من الصمود وإبطاء تقدم القوات الروسية، والاجتياح أخرج الناتو من خلافاته وجعله يرص صفوفه ويتوحد تحت المظلة الأميركية بطريقة لم يعرفها منذ سنوات. وكانت الضربة التالية في توحد الغرب حول فرض عقوبات اقتصادية واسعة وقاسية.
وبعد إعلان الرئيس بايدن أن بلاده قررت حظر استيراد النفط والغاز الطبيعي الروسي، قالت بريطانيا إنها ستتوقف عن استيراد النفط الروسي بنهاية هذا العام. ثم جاءت الضربة الأقوى من الاتحاد الأوروبي الذي أعلن عن مقترحات ستبحث في قمة قادته اليوم لتنويع مصادر إمداداته من الغاز الطبيعي وتسريع خطط تطوير الطاقة البديلة بما يجعله قادراً على خفض اعتماده على الغاز الروسي بمقدار الثلثين قبل نهاية العام الحالي. وهذه الخطوة رغم صعوبتها وتكلفتها على أوروبا التي تحصل على نحو 40 من احتياجاتها من الغاز، وربع وارداتها النفطية من روسيا، فإن تأثيرها سيكون قوياً على موسكو. صحيح أن بوتين سيجد مشترين للنفط والغاز الروسيين، خصوصاً في ظل التعاقدات الموقعة مع الصين، لكن الخطوة الأوروبية تعتبر ضربة لحساباته اللوجستية ولها تداعيات اقتصادية ومعنوية.
هذا يقودنا للحديث عن الصين التي تراقب الأوضاع عن كثب لأكثر من سبب. فمن ناحية يمكن أن يقال أن الصين هي المستفيد الأكبر من الأزمة الراهنة التي تربك الغرب وتشغل واشنطن. فبكين تدرك أن عين أميركا مثبتة عليها، وأن الحرب الاقتصادية الراهنة على روسيا قد تكون بروفة لحرب مشابهة ضدها مستقبلاً. فهي أيضاً قوة عسكرية نووية، ولن يجازف الغرب بالدخول في مواجهة عسكرية مباشرة معها، لذلك سيلجأ إلى «الحروب الرمادية».
وفقاً لهذه الحسابات فإن بكين لا تريد أن ترى روسيا تُهزم وتفضل حلاً تفاوضياً، ولذلك عبرت عن استعدادها للمشاركة في أي جهد دبلوماسي لحل الأزمة وانخرطت في محادثات مع الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني اللذين يواصلان الاتصالات والجهود مع بوتين.
في الوقت ذاته ألقت الصين مسؤولية اندلاع الحرب على الولايات المتحدة واتهمتها بتأجيج الوضع، وعدم مراعاة مخاوف روسيا الأمنية «المشروعة» جراء توسع الناتو إلى حدودها. وذهبت أبعد من ذلك متبنية موقفاً رافضاً لما سمته «عصا العقوبات» وقالت وزارة خارجيتها إن استخدام هذه العصا «عند كل منعطف لن يجلب السلام والأمن أبداً».
لكن الصين من ناحية أخرى ترى أن الاجتياح الروسي خلق تعقيدات. فهي ومن واقع كونها قوة اقتصادية كبرى لديها مصلحة في استقرار الأوضاع الاقتصادية العالمية ولا تريد أن ترى إرباكاً يضر بمصالحها ويؤثر على تجارتها. أبعد من التأثيرات الاقتصادية فإن بكين، بل العالم كله، متخوف من انفلات الأمور. فتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا ستقود حتماً إلى تأجيج الحروب الرمادية بكل أوجهها، ومعها الحرب الاقتصادية، بين موسكو والغرب. وأمس صرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأنه بغض النظر عن القوة العسكرية لروسيا وأي انتصارات ميدانية في أوكرانيا، فإن «بوتين سيفشل وستعاني روسيا من هزيمة استراتيجية».
المشكلة أنه كلما اشتد الضغط على بوتين فإن ذلك قد يجعله أكثر عدوانية بما قد يدفع الأمور نحو مواجهة غير محسوبة مع الغرب تقود العالم إلى حرب عالمية ثالثة مدمرة، لن يسلم من تبعاتها أحد.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الحروب الرمادية الحروب الرمادية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 08:05 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

مواقيت الصلاة في مصر اليوم الإثنين 18 نوفمبر /تشرين الثاني 2024

GMT 10:55 2024 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

دوناروما يؤكد ان غياب مبابي مؤثر وفرنسا تملك بدائل قوية

GMT 09:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 08:31 2024 الخميس ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن وجود علاقة بين النوم المبكر وصحة أمعاء طفلك

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 07:27 2024 الأربعاء ,30 تشرين الأول / أكتوبر

هند صبري بإطلالة أنثوية وعصرية في فستان وردي أنيق

GMT 04:33 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

اليونسكو تعزز مستوى حماية 34 موقعًا تراثيًا في لبنان

GMT 13:08 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

نيمار يشتري بنتهاوس بـ 200 مليون درهم في دبي

GMT 07:25 2024 السبت ,16 تشرين الثاني / نوفمبر

زلزالان بقوة 4.7 و4.9 درجة يضربان تركيا اليوم

GMT 03:12 2017 الأحد ,15 تشرين الأول / أكتوبر

ليليا الأطرش تنفي تعليقاتها عن لقاء المنتخب السوري

GMT 18:33 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ميا خليفة تحضر إلى لبنان في زيارة خاصة

GMT 14:47 2019 السبت ,09 شباط / فبراير

الحضري على رأس قائمة النجوم لمواجهة الزمالك

GMT 11:13 2018 الأربعاء ,11 إبريل / نيسان

ما وراء كواليس عرض "دولتشي آند غابانا" في نيويورك
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon