بقلم :هدى الحسيني
احتفلت تركيا يوم الأحد الماضي بالذكرى الـ98 لمعركتها الحاسمة في حربها من أجل الاستقلال ضد القوات اليونانية، في وقت يتنامى فيه التهديد بمواجهة جديدة مع اليونان في شرق البحر المتوسط. وقد وجه الرئيس رجب طيب إردوغان بمناسبة ذكرى «النصر» بياناً جاء فيه أن «نضال تركيا من أجل الاستقلال والمستقبل مستمر اليوم أيضاً». وأضاف: «ليس من قبيل الصدفة أن أولئك الذين يسعون إلى استبعادنا من شرق البحر المتوسط هم الغزاة أنفسهم الذين حاولوا غزو وطننا قبل قرن من الزمان».
لطالما اختلفت اليونان وتركيا بشأن الادعاءات المتداخلة بالنسبة إلى الموارد الهيدروكربونية في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يتبنى كلا الجانبين وجهات نظر متضاربة حول مدى امتداد الرفوف القارية. في الأسابيع الماضية؛ تداخلت القوات التركية واليونانية في سلسلة من التدريبات العسكرية بمناورات شبيهة بـ«مناورات القط والفأر» في البحار ما بين قبرص وجزيرة كريت اليونانية. وكانت المواجهة اندلعت عندما أرسلت تركيا سفينة أبحاث مصحوبة بسفن حربية للتفتيش عن احتياطات الغاز والنفط.
تؤكد اليونان، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، أن المياه جزء من جرفها القاري، وقد حشدت دعم دول الاتحاد التي أدانت «الأنشطة غير القانونية» لتركيا وحذرت من احتمال فرض عقوبات على أنقرة.
ردت اليونان على سفينة الأبحاث التركية بإجراء مناورات بحرية وجوية مع قبرص وفرنسا في المنطقة نفسها، مما خلق مواجهة تصعيدية مع احتمال مواجهة مباشرة مع تركيا. وكانت اليونان وقبرص انضمتا مؤخراً إلى فرنسا وإيطاليا والإمارات العربية المتحدة في القيام بمناورات عسكرية بحرية وجوية في المنطقة، مما دفع بتركيا إلى القول إن اليونان ودولاً أخرى تنكر حقها في التنقيب عن موارد الطاقة في البحر المتوسط.
يوم السبت الماضي، بدأت تركيا مناوراتها العسكرية الخاصة التي ستستمر حتى 11 سبتمبر (أيلول) الحالي قبالة ساحلها الجنوبي، وقال إردوغان: «يجب ألا يشكك أحد في عزمنا في هذا الأمر وإيماننا الراسخ بالنصر». «يوم النصر» تحتفل به تركيا إحياء لمعركة «دام لوبينار» عندما هزمت قواتها القوات اليونانية في غرب الأناضول بحلول نهاية عام 1922. بعدها غادرت قوات الاحتلال الأجنبية الأراضي التي ستصبح جمهورية تركيا عام 1923. ويوم الأحد الماضي زار إردوغان ضريح مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك الذي قاد القوات التركية في النضال من أجل استقلال بلاده بعد الحرب العالمية الأولى، وواصل تأسيس تركيا الحديثة وأصبح أول رئيس لها. وكانت وزارة الداخلية التركية أرسلت في 23 أغسطس (آب) الماضي تعميماً إلى كل المقاطعات يفرض تقييداً على الاحتفالات العامة بالمناسبة بداعي وباء «كورونا». وأدى ذلك إلى اتهام حزب العدالة والتنمية الحاكم وذي الجذور الإسلامية بمحاولة التقليل من شأن إنجازات أتاتورك. هذه تهمة تلاحق حزب إردوغان في كل الأعياد الوطنية، ويأتي الرد عليه من الأتراك غير الملتزمين بحزبه: «لن تكون قادراً على جعلنا ننسى أو نمحو حبنا واحترامنا لأتاتورك... والذين ناضلوا من أجل الجمهورية التركية».
ولأن «يوم النصر» التركي مرتبط باليونانيين، فإنهم يعترفون بأن الأتراك لا يخدعون. لقد تعلموا قراءة نياتهم؛ يعرفون أن الأتراك في البداية يختبرون المياه، ويقتربون جداً من «الخطوط الحمر» التي وضعها المجتمع الدولي حتى لحظة عبورهم لها. بعد ذلك يواجه الجميع ما يصبح الأتراك يعدّونه واقعاً ـ مهما كان غير قانوني ـ وحقاً غير قابل للتفاوض.
يواجه رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس فترة صعبة بشكل خاص هذه الأيام؛ التحضير لموجة ثانية محتملة من فيروس «كورونا» والسعي إلى تعزيز الاقتصاد ضد تداعيات أزمة صحية غير مسبوقة، كما يجب عليه الاستمرار في التعامل مع التوترات المستمرة مع تركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط.
إن دور الرئيس الأميركي دونالد ترمب والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل محوري مع استعداد أثينا لاحتمال استمرار الاستفزازات التركية الأسبوع المقبل بسبب المناورات؛ إذ من الواضح أن أي حادث في شرق البحر المتوسط سيكلف كلا الجانبين تكلفة باهظة، وسيزيد العبء على الاقتصاد التركي المنهك، وقد بدأت تركيا تأخذ ثمن تدخلها في ليبيا باتفاق مالي مع البنك المركزي الليبي، ولو لم يوافق حاكم «المركزي الليبي»، لطار من منصبه. في ضوء ذلك؛ تعتمد أثينا على مشاركة كل من واشنطن وبرلين في محاولة تهدئة التوترات التي تختلقها تركيا.
لا تقلل اليونان من أهمية العلاقات الوثيقة التي طورها الرئيس الأميركي ترمب مع الرئيس التركي إردوغان. ومع ذلك تشجعت أثينا بالاستعداد الذي أظهره ترمب في الاستجابة لأزمة شرق البحر المتوسط، فهو اتصل بميتسوتاكيس يوم الأربعاء قبل الماضي مرتين، عندما بلغت التوترات ذروتها وعرض المساعدة على تهدئة الموقف.
فمع مواجهة ترمب انتخابات رئاسية صعبة في غضون شهرين، اكتسب دعم الشتات اليوناني في الولايات المتحدة أهمية أيضاً، ثم إنه من غير المرجح أن يرغب ترمب في تشويه إرثه بسبب صراع عسكري بين دولتين عضوين في الحلف الأطلسي.
الأمر نفسه ينطبق على المستشارة الألمانية ميركل التي لا تريد نزاعاً يونانياً - تركياً، إما بسبب حادث غير محسوب، أو بسبب تصعيد أنقرة التوتر، في الوقت الذي تتولى فيه بلادها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لمدة 6 أشهر، رغم أن الزيارة إلى أنقرة مؤخراً التي قام بها هايكو ماس، وزير الخارجية الألماني، لم تسفر عن أي نتائج ملموسة؛ لا بل، وأثناء زيارته إلى أثينا، أوضح ماس أن نوعاً من العقوبات سيكون لا مفر منه في نهاية سبتمبر الحالي إذا استمرت تركيا في تجاوزاتها.
تشعر أثينا بأنها حققت مكسبين كبيرين في الوقت الذي يحاول فيه إردوغان إحداث تغيير قوي في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه: الموافقة على صفقة مع مصر تحدد جزئياً المناطق الاقتصادية الخالصة، وإعلان اليونان عن تمديد مياهها الإقليمية في البحر الأيوني من 6 أميال إلى 12 ميلاً بحرياً.
ما الذي يحاوله إردوغان؛ هل الإبقاء على أنصاره ملتفين «وراءه»، لصرفهم عن المشكلات الأكثر إلحاحاً، أو التحضير لانتخابات مبكرة؟ وإذا كان يستعد بالفعل للحرب، فما الذي يأمل في تحقيقه؟ سحق اليونانيين، أم لكسب أراض ونفوذ أكبر في المنطقة؟
في حال حققت تركيا مكاسب إقليمية؛ فإنها ستظل دائماً غير قانونية وستكون لها تكلفة سياسية واقتصادية كبيرة وغير متوقعة على أنقرة.
من الأهمية بمكان أن يفهم «المكفوفون» اليوم أنهم سيخدمون السلام ومصالح تركيا الخاصة إذا تبنوا سياسة ديناميكية من شأنها تقييد إردوغان، فهذا يضمن تحويل تهديدات تركيا إلى خدعة، كان صاحبها يعتقد أنها ستنجح.
المثير للضحك ما نشرته يوم أمس صفحة مكتب إعلام الرئاسة التركية: «تستمر تركيا في كونها (تركيا من أجل السلام)، في جميع زوايا العالم الأربع، مع الحلول طويلة الأمد والسلمية التي تطرحها للمشكلات الدولية».
أكبر خطأ ارتكبه النقاد الغربيون افتراضهم خطأً أن إردوغان لا يصدق دعايته السامة؛ هو مثله مثل كل الإسلامويين مسكورون بأساطيرهم الخرقاء.