بقلم: هدى الحسيني
منذ انهيار الاتحاد السوفياتي لم يصبح لروسيا دور بارز في العالم كما هو اليوم. يعود هذا أولاً وآخراً إلى شخص الرئيس فلاديمير بوتين الذي أُصيب بالإحباط والاكتئاب عندما كان ضابطاً في مكاتب «كي جي بي» في ألمانيا الشرقية ورأى على شاشة التلفزيون في مكتبه انهيار حائط برلين واندفاع الحشود باتجاه الجهة الغربية من المدينة. ويروي الكاتب أندريه كوليسنيكوف عن مواجهة بوتين مع حشود متظاهرة حاولت اقتحام مركز «كي جي بي» في مدينة دريسدن الألمانية فتوجه إليهم منفرداً وقال لهم إن المركز هو أرض روسية وإنه سيطلق النار على كل من يحاول اقتحامه، فتفرَّق بعدها المتظاهرون، وهرع هو إلى المكاتب لإتلاف الوثائق والتقارير السرية وإخلاء المركز بسرعة تحسباً لعودة المتظاهرين.
غادر بوتين دريسدن عائداً إلى موسكو وساءه الانهيار السريع والمذلّ لبلده فألقى باللوم على قيادته الخانعة المستسلمة، وهو يسعى منذ أن تمكن من حكم البلاد إلى أن يعيد مجد روسيا كقوة عظمى في العالم إلى ما كانت عليه أيام ستالين.
يؤمن فلاديمير بوتين بأن شعوب جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق لديها ترابط تاريخي مع روسيا اقتصادياً، وثقافياً واجتماعياً، لهذا من الطبيعي أن تتكتل هذه الدول ضمن اتحاد وتدور في فلك موسكو، فأقام «منظمة الأمن الجماعي» التي ضمت طاجيكستان وأرمينيا وقيرغيزستان وبيلاروسيا وكازاخستان وكذلك أقام «الاتحاد الاقتصادي الآسيو-أوروبي» الذي ضم دولاً أخرى خارج آسيا الوسطى. يبلغ مجموع سكان هذا الاتحاد ما يفوق 45 مليون نسمة ضمن مساحة جغرافية غنية بالثروات الطبيعية والإنتاجية. بكلام آخر يسعى بوتين إلى إعادة أمجاد الاتحاد السوفياتي ولكن ضمن نظام رأسمالي اقتصادي حر.
إلا أن ما يطمح إليه قيصر روسيا الجديد شيء وتحقيق الطموح شيء آخر. فعقارب الساعة لا تعود إلى الوراء، والشعوب التي استقلت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ذاقت طعم الحرية وإن قليلاً وتنعمت ببعض الديمقراطية وبفعل الإنترنت أصبحت متواصلة مع العالم الخارجي، ولهذا من الصعب أن تعود هذه الشعوب إلى كنف روسيا التي حكمتها بالحديد والنار لأكثر من سبعة عقود. وبعض هذه الشعوب ستقاوم بضراوة عملية احتواء موسكو لها وفي هذا تلقى دعماً من بعض القوى الخارجية التي لديها خلافات مع روسيا أو تحاول تقليص نفوذها.
الخلاف الروسي - الأوكراني هو المثال على عدم تراجع عقارب الساعة. هو خلاف ليس بجديد وقد تفاقم بعدما رفضت كييف الانضمام إلى الاتحاد الاقتصادي وبعدما أطاحت ثورة الأورانج الرئيس فيكتور يانيكوفيتش الموالي لموسكو. وقد تم الرد على هذا باحتلال شبه جزيرة القرم الذي أدانه المجتمع الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة.
وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن بلاده لن تسمح بانفصال القرم عن روسيا الأم وستمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وأضاف أن هذه أمور وجودية روسية.
بالتأكيد الخلاف يتعدى أحلام بوتين لمجد ضاع. فهناك قضايا في أوكرانيا هي بالفعل تمس الأمن القومي الروسي، لعل أهمها الممرات المائية الموجودة على حدود شبه الجزيرة مع أوكرانيا والتي تسمح للسفن الروسية بالعبور إلى المياه الدافئة، وهناك الغاز الروسي الذي يمر 80% من إنتاجه إلى أوروبا عبر أوكرانيا. وهنا تكمن المصاعب الحقيقية للرئيس بوتين التي بسببها سيدفع غالياً الثمن لحماية مصالح بلاده. وستكون الأسابيع المقبلة مفصلية بالنسبة إلى ما ستؤول إليه التطورات.
تواجه روسيا مصاعب أخرى في أماكن نفوذها، حيث تنتفض الشعوب على حكامها الموالين بالمطلق لموسكو ويتم قمعها بالقتل والتنكيل. وآخر المصاعب كانت كازاخستان؛ أولى الجمهوريات التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي والدولة الأكبر مساحهً في آسيا الوسطى والأغنى بسبب النفط، حيث الإنتاج النفطي بلغ نصف مليون برميل يومياً، ولديها أيضاً حقول غاز تقدر كميتها بـ85 تريليون قدم مكعب أنشأت لنقلها إلى الصين خطاً يمر عبر تركمنستان وأوزبكستان.
وكانت روسيا تدعم حكم الرئيس نور سلطان نزارباييف الموالي لها منذ الاستقلال وذلك رغم فساده وقمعه. وقد تم إقناعه من الروس لنقل الرئاسة بواسطة انتخابات ديمقراطية المظهر أمّنت وصول الرئيس الحالي قاسم توكاييف الذي هو أيضاً بقدرة قادر موالٍ لروسيا. ومع حصول الانتفاضة الشعبية بسبب زيادة الضرائب واستمرار الفساد بل تفاقمه، تبين لموسكو أن هناك أيادي خارجية تحاول زعزعة حكم توكاييف وبالتالي النفوذ الروسي في هذا البلد المهم، فأدار بوتين الأزمة بنفسه وأعطى إرشاداته للرئيس الكازاخي لإقصاء مجلس الوزراء ومن ثم قمع المتظاهرين بقسوة إلى حين وصول فرقة من القوات الضاربة الخاصة الروسية لمؤازرة القوات الكازاخية وإنهاء عملية الانتفاضة. وبالفعل دخلت قوة من 2500 عنصر روسي نفّذت عمليات قمعية إلى جانب القوات المحلية قُتل فيها العشرات بتعتيم إعلامي شامل. وأُعلن بعد يومين من التدخل الروسي عن إنهاء التمرد.
يقول مراقبون إن قرار بوتين التدخل لحماية النظام يمكن أن يكون عملية حاسمة في المدى القصير، إنما في المدى المتوسط والأبعد سيزيد من غضب الناس لوقوف روسيا إلى جانب نظام فاسد مستبيح لثروات الشعب وسيستمر بالانتفاض على الظلم والقمع، وسيجد حتماً من يؤازره من الخارج لشتى الغايات. وبالتالي فإن كازاخستان أصبحت تشكل بؤرة عدم استقرار لمصالح روسيا في آسيا الوسطى.
يمكن أن يكون الرئيس الروسي قد أعاد روسيا إلى الخريطة كدولة كبرى، إنما لن يستطيع أن يعيد بلاده إلى مكانة الدول العظمى حيث في عالم اليوم أصبح التنافس بين الولايات المتحدة والصين لتبوّء مركز الصدارة ولا مكان لأي قوة أخرى. روسيا ليست في هذا السباق، ولعل المستقبل لن يكون واعداً وستتراجع القدرات الروسية بسبب أحلام بوتين اللاواقعية.
على كلٍّ، لا يزال هناك الكثير مما هو غير معروف عن الاضطرابات العنيفة التي اجتاحت كازاخستان. لكن ظهرت حقيقة واحدة واضحة من الفوضى: عقيدة فلاديمير بوتين السياسية الجديدة.
لنلقِ نظرة على موقف الرئيس الروسي بوتين في الداخل، ونحاول تحديد السبب وراء موقفه الذي يمثل تهديداً لأوكرانيا.
لدى روسيا معدل تضخم خطير بنسبة 8% يعرِّض للخطر هدف بوتين المتمثل في رفع مستوى معيشة مواطنيه بينما تعاني البلاد من ارتفاع في إصابات «كوفيد - 19». بالإضافة إلى ذلك، تولى بوتين دور الحامي للزعماء الفاسدين ولكن المهددين بالخطر لحفنة من الجمهوريات السوفياتية السابقة المتاخمة لروسيا. جميعهم ينتمون إلى منظمة معاهدة الأمن الجماعي ومقرها موسكو، وفي نفس الوقت يقوم بوتين بقمع الحريات الشخصية.
على سبيل المثال، في سبتمبر (أيلول) الماضي خلال التدريب المشترك لمكافحة الإرهاب في جمهورية قيرغيزستان، كان السيناريو هو «تدمير الجماعات المسلحة غير الشرعية التي غزت أراضي دولة عضو في منظمة معاهدة الأمن الجماعي»، لاحقاً ووفقاً لبيان صحافي. أقيمت تمارين «الأخوة التي لا تُكسر» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، على مدى خمسة أيام في روسيا بمشاركة وحدات من جميع الدول الست. كان أحد السيناريوهات «عملية تكتيكية لعزل المجتمع الذي استولت عليه الجماعات المسلحة غير الشرعية والقضاء عليه».
كان هذا التمرين الأخير ذا صلة بما حدث مؤخراً في كازاخستان، على طول الحدود الجنوبية لروسيا. تمت مناقشته لاحقاً بالتفصيل في اجتماع طارئ افتراضي عقدته منظمة معاهدة الأمن الجماعي في 10 يناير (كانون الثاني) الجاري، والذي ضم الرئيس الروسي بوتين، ورئيس كازاخستان توكاييف، ورئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، ورئيس وزراء أرمينيا نيكول باشينيان، ورئيس وزراء قيرغيزستان إكيلبك جابروف، ورئيس طاجيكستان إمام علي رحمون.
وصف رئيس كازاخستان توكاييف، المحاولة التي استمرت أسبوعاً للإطاحة بحكومته جزئياً على النحو التالي:
«تم استخدام المسيرات العفوية كذريعة لإثارة الاضطرابات المدنية». ولم ير أنها عكست استياءً طويلاً من الحكومة الاستبدادية. وكان توكاييف قد اتصل ببوتين طلباً للمساعدة، فأرسل 2500 جندي للمساعدة في استعادة النظام. في الواقع، تم استخدام الدروس المستفادة من تمارين «الأخوة التي لا تُكسر»، وبينما ألقى توكاييف باللوم على المقاتلين الأجانب، اشتكى الكثير من الناس من الزعيم القديم نور سلطان نزارباييف، الذي استقال عام 2019 لصالح توكاييف، خليفته المختار. ومع ذلك، حافظ على نفوذه من وراء الكواليس كرئيس لمجلس الأمن في كازاخستان.
في أعقاب القتال، تم عزل نزارباييف من مجلس الأمن وطرد كريم ماسيموف، رئيس وكالة الاستخبارات الكازاخية القوية وحليف نزارباييف، ثم أُلقي القبض عليه ووُجِّهت إليه تهمة الخيانة العظمى. كما طُرد ابن شقيق نزارباييف، سامات أبيش، الذي كان يعمل مع ماسيموف بينما أُلقي القبض على نائبي ماسيموف الآخرين بتهمة الخيانة. وأُجبر ثلاثة من أصهار الزعيم السابق على التنحي كرؤساء لشركات كبرى في كازاخستان. بعد ذلك حصل نقاش حول التهديدات المستقبلية للدول الأعضاء الأخرى.
قال الرئيس البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، الذي واجه ستة أشهر من الاحتجاجات بعد انتخابات أغسطس (آب) 2020: «اسمحوا لي أن أذكّركم بالمخاطر والتهديدات المتعلقة بإنشاء ما تسمى الخلايا النائمة الإرهابية في آسيا الوسطى. نحتاج إلى معرفة مَن نظمهم ووجههم».
تمسك بوتين بهذه الفكرة وقال للمجموعة: «إن الأحداث في كازاخستان ليست المحاولة الأولى وبالتأكيد ليست الأخيرة، إن الإجراءات التي اتخذتها منظمة معاهدة الأمن الجماعي تُظهر بوضوح أننا لن نسمح بتحقيق سيناريو آخر يسمى (الثورة الملونة)»، في إشارة واضحة إلى الثورة البرتقالية في أوكرانيا عام 2004.
لذلك، وبينما كان بوتين يخلق تهديداً بغزو أوكرانيا على حدوده الغربية، تواجه بلاده نفسها وحلفاؤها حركات تمرد محتملة من شعوبها والمقاتلين الإسلاميين داخل بلدانها ويعملون على حدودها.
يتمثل أحد أهداف بوتين في تقويض إمكانية بقاء أوكرانيا كدولة قومية ذات سيادة.
لا يستطيع بوتين تحمل وجود ديمقراطية أو شبه ديمقراطية ناجحة تُظهر للروس أن هناك بديلاً لعلامته الاستبدادية القومية المتطرفة.
يمكن لبوتين أن يستمر في خلق مشكلات للحكومة الأوكرانية المتعثرة برئاسة فولوديمير زيلينسكي من دون اللجوء إلى الحرب المباشرة. لكن يمتلك الرئيس الروسي نقاط ضعف خاصة به بحيث يمكن للولايات المتحدة وحلفائها في الناتو استخدام بعض من نفس نوعية حربه لتقويض حكومته وحكومات دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي.