بقلم:هدى الحسيني
بعد أيام قليلة ينتهي عام ليبدأ عام جديد يسوده القلق لمعظم العرب بما ينتظرهم من أحداث مقبلة. قبل عام كان مستحيلاً تصور إمكانية القضاء على قدرات «حزب الله» وقياداته، واغتيال قادة «حماس»؛ من إسماعيل هنية ويحيى السنوار وغيرهما، وتحويل غزة إلى ما يشبه موقف سيارات، وكان انهيار النظام في سوريا، وفرار الرئيس بشار الأسد، ضرباً من الخيال. إلا أن هذا حصل وبسرعة فاقت تصور المراقبين، وأصبح هناك واقع جديد في دول المنطقة، وإن كان مملوءاً بالفراغ والقلق لما سيحدث.
ما يمكن الجزم به هو انتهاء مشروع الممانعة الذي دعمته إيران مالاً وسلاحاً وتدريباً. وقد تلقّى محور المقاومة ضربات قاضية في لبنان وسوريا وفلسطين واليمن، وأصيب الناشطون والمناصرون الممانعون بصدمة كبيرة؛ من هول الانهيار، والأكثر لعدم القدرة على الرد، كما كان يَعِدهم به قادتهم. ولقد بدأت عملية مراجعة ونقد ذاتي ضمن البيئات الحاضنة، ولو بالهمس، وكثر الحديث عن التسليم لسلطة الدولة الحاضنة العادلة والابتعاد عن المحاور الإقليمية التي لا يهمُّها سوى مصالحها، ولعلَّ في هذا أمراً إيجابياً على الرغم من الدمار والقتل.
ولكي لا يغرق الإنسان بالتفاؤل، فإن هناك مخاضاً عسيراً وطويلاً قبل أن تستتبّ الأوضاع. فـ«حزب الله»، المنسحب إلى شمال نهر الليطاني، سيحاول أن يهيمن بقوة سلاحه على باقي الأراضي اللبنانية، ولكنه سيفشل، وإن بعد عام من الزمن، لأسباب عدة؛ أولها أن اتفاق وقف إطلاق النار يدعو إلى تسليم سلاحه؛ ليس في جنوب لبنان فحسب، بل في كامل الأراضي اللبنانية، وإلا فإن إسرائيل ستكون بحِل من شن غارات جديدة تصيب المدن والمناطق السكنية. كما أن إقفال الحدود مع سوريا سيُوقف عمليات نقل السلاح والدعم والتهريب الذي ساهم بتمويل الحزب بشكل كبير. وسيلعب الجيش اللبناني دوراً مهماً في فرض سلطة الدولة، بدلاً من الميليشيات.
الوضع في سوريا أكثر تعقيداً، فانتهاء حكم آل الأسد، الذي استمر لما يفوق خمسة عقود ونصف العقد، ستسعى فلوله من العلويين بشتى الطرق لحماية امتيازاتهم، وقد يقومون بأعمال تخريبية وبث الفتن بين الفصائل التي استولت على حكم البلد، وخاصة أن هناك الكثير مما يفرق بينها. ويعتقد البعض أن هناك اتجاهاً لدى البعض بالتحصن في الساحل وجبال العلويين، وإقامة دولة مستقلة هناك. وبالطبع هناك توجه من الأكراد لإقامة دولتهم، والدروز كذلك. إلا أن قيام دويلات طائفية كهذه مستبعَد، فدولة العلويين ستكون معزولة ولا تملك من المقومات الاقتصادية ما يمكّنها من الاستمرار، عدا عن الشروخ التاريخية ضمن الطائفة التي طغى عليها حافظ الأسد، ولكنها ما زالت موجودة كالجمر تحت الرماد. أما الأكراد فعلى الرغم من دعم الولايات المتحدة وإسرائيل قيام دولتهم، فإن هناك الحاجز التركي الذي لن يقبل بوجود هذه الدولة وسيمنعها بكل ما أوتي من قوة. أما الدولة الدرزية فإن الدعوة لقيامها تشمل عدداً قليلاً من الطائفة. ويبقى أن جميع هذه التوجهات في سوريا ستؤدي إلى صراعات قد تستمر طويلاً قبل أن تستقر.
وتبقى القضية المركزية؛ قضية فلسطين، الأهم لاستقرار المنطقة، فبوجود إسرائيل، بقيادة بنيامين نتنياهو وزمرته، لن تقوم دولة حقيقية للفلسطينيين ويتفاقم اللاستقرار، ولكن نتنياهو ليس خالداً وسيذهب، عاجلاً آم آجلاً، وهناك تعويل على دور إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترمب بقيام الدولتين والتوصل إلى الاتفاق الإبراهيمي.
ولكن تبقى أحداث سوريا سيدة الأحداث، ولا بد من إلقاء نظرة على سلسلة المفاجآت التي أذهلت كل الأجهزة الأمنية في العالم. يمثل انهيار نظام بشار الأسد لحظة فاصلة في سياسة الشرق الأوسط. كان التفكك السريع لحكومة الأسد؛ وهي اللاعب الأساسي في الشؤون السورية والإقليمية لأكثر من 50 عاماً، لا يمكن تصوره بالنسبة إلى الكثيرين، ومع ذلك فقد تحقق في أقل من أسبوعين، عندما اجتاحت قوات المتمردين عليه البلاد. لا يعيد هذا الحدث الزلزالي تشكيل الديناميات الداخلية لسوريا فحسب، بل يمهد الطريق أيضاً لمرحلة جديدة من الجغرافيا السياسية الإقليمية.
إن الفروق الدقيقة في سقوط الأسد، وصعود تحالفات الثوار، والتفاعل المعقد بين الجهات الفاعلة المحلية والعالمية، تستحق فحصاً أوثق لفهم التحديات والإمكانات في حقبة ما بعد الأسد في سوريا. برزت «هيئة تحرير الشام» بصفتها قوة محورية وراء الحملة التي أنهت حكم الأسد. انتقلت من الجذور المتطرفة إلى البراغماتية السياسية. وُلدت الهيئة من فرع «تنظيم القاعدة» السوري؛ «جبهة النصرة». بمرور الوقت، نأى أحمد الشرع، المعروف بـ(أبو محمد الجولاني)، بالجماعة عن أصولها المتشددة، مؤكداً أجندة قومية وسعى إلى تصويرها بديلاً موثوقاً لنظام الأسد. منذ انتصارها، أعطت المجموعة صورة للبراغماتية والاعتدال، على الأقل، مقارنة بالفصائل الإسلامية الأخرى، خصوصاً فيما يتعلق بالتدابير التي تهدف إلى حماية حقوق الأقليات، والحد من العنف العشوائي، وإنشاء هياكل حوكمة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة. على الرغم من هذه الوقائع، لا تزال الشكوك حول النيات الحقيقية للمجموعة منتشرة. وتبقى الأيام كفيلة بتبديد هذه الغيوم.