بقلم - أحمد يوسف أحمد
تصاعد الخطر على فلسطين عبر الزمن بدءا بالمؤتمر الصهيونى الأول فى بازل 1897 ومرورا بوعد بلفور 1917 وقرار الأمم المتحدة فى 1947 بتقسيم فلسطين فإعلان دولة اسرائيل فى السنة التالية فاستكمال السيطرة على أرض فلسطين فى عدوان 1967، وتاريخياً كان لكل فعل استعمارى رد فعل مقاوم ولم يكن الفلسطينيون استثناءً من هذه القاعدة، وبالتالى كانت مقاومتهم معلما دائما فى تطور القضية الفلسطينية عبر محطات مهمة كانتفاضة البراق 1928 وثورة 1936 والمقاومة غير المنظمة بعد صدمة النكبة فى 1948 ثم تأسيس الكيان الفلسطينى فى 1964 فى مرحلة المد القومى وعقب ذلك مباشرة أطلقت فتح أول رصاصة مقاوِمة منظمة فى مطلع 1965، ثم كان للمقاومة الفلسطينية محطاتها التاريخية العسكرية والمدنية كما فى معركة الكرامة 1968 وانتفاضة الحجارة منذ أواخر 1987، وانتفاضة الأقصى فى 2000 وصولاً إلى مسيرات العودة الراهنة وسلاح الطائرات الورقية.
حققت المقاومة الفلسطينية إنجازات مهمة مثل بناء الكيان السياسى الفلسطينى كما سبقت الإشارة وانتزاع اعتراف إسرائيل بهذا الكيان كممثل لشعب فلسطين بموجب اتفاقية أوسلو 1993 رغم سوءاتها العديدة بعد أن كان الشعار الصهيونى السائد هو أرض بلا شعب (أى فلسطين) لشعب بلا أرض (أى اليهود) وإجبار إسرائيل على الانسحاب من غزة فى 2005 وتفكيك المستوطنات القريبة منها فى سابقة هى الأولى من نوعها، لكن هذه الإنجازات جاءت ناقصة، فالاعتراف الإسرائيلى كان بالشعب الفلسطينى ومنظمته وليس بدولة فلسطينية فيما اعترف الفلسطينيون بدولة إسرائيل، والانسحاب من غزة وتفكيك مستوطناتها لم يُلغ القدرة الإسرائيلية على إلحاق أضرار تدميرية بها كما اتضح فى عدوان 2008/2009 وأعمال العدوان التالية له، والنشاط الاستيطانى السرطانى فى الضفة الغربية يجعل هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة مستحيلاً، لكننا مع ذلك نستطيع الحديث ولو نسبيا عن حالة من الردع المتبادل مع الاعتراف بالفارق الهائل بين قدرتى الطرفين، ويجسد هذه الحالة التصريح الأخير لواحد من أكثر وزراء إسرائيل تطرفاً ومفاده الهدوء بالهدوء وذلك فى سياق المحاولات الأخيرة للتوصل إلى تهدئة طويلة المدى بين حماس وإسرائيل وذلك بعد أن كانت التعبيرات الإسرائيلية المستخدمة فى الحديث عن المقاومة كلما أبدعت أسلوباً نضاليا جديدا لا تخرج عن السحق وتكسير العظام.
وتتعدد أسباب هذا الإنجاز غير المكتمل بين أسباب داخلية وأخرى خارجية، لكن الأسباب الداخلية هى الأهم عادة، وأحسب أن السبب الأول هو الانقسام الفلسطينى، وتظهر الخبرة التاريخية لحركات التحرر الوطنى أن انقسامها كان ملمحا دائما لم تنج منه حركة واحدة تقريباً، لكن بعض الانقسامات كان عادياً بحيث لم يؤثر على المسار الرئيسى لحركة التحرر كما فى الحالة الجزائرية، وبعضها الآخر كانت تكلفته فادحة فى الأرواح والموارد وتأخير إنجاز الاستقلال وتقويض الاستقرار الداخلى بعده، وللأسف فإن حركة التحرر الفلسطينى تنتمى إلى النوع الثانى، فقد تجاوز الأمر الاقتتال المسلح إلى انفراد كل فصيل من الفصيلين المتناحرين بقطعة مما تبقى من أرض فلسطين يمارس عليها سلطته، مع أن مقاومة الاستعمار الصهيونى لفلسطين هى آخر حالة تحتمل هذا الانقسام لأنها تواجه استعمارا استيطانيا إحلاليا شرسا، والأخطر من هذا تمترس الانقسام ،رغم التطورات الأخيرة الخطيرة بعد اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل فى ديسمبر الماضى والأحاديث المشبوهة عن صفقة القرن وجوهرها شراء تخلى الفلسطينيين عن حقوقهم غير القابلة للتصرف بإغراءات اقتصادية غامضة، ومحاولة خنقهم مالياً بخفض محسوس فى المساهمة الأمريكية فى ميزانية وكالة غوث اللاجئين وتشغيلهم ثم وقف التمويل تماما عقابا لهم على رفض التجاوب مع مساعى الصفقة المشبوهة، واستغلت إسرائيل بطبيعة الحال هذا التحول النوعى فى السياسة الأمريكية أسوأ استغلال فارتكبت كل الموبقات الاستعمارية فى ظله بدءا بالتغول فى الاستيطان وإسباغ إطار قانونى عليه يجيز الاستيلاء على الملكيات الخاصة الفلسطينية لغرض الاستيطان وصولا إلى فضيحة إسباغ الشرعية عليه بدعوى حسن النية! وانتهاء بقانون الدولة القومية الذى يكرس إسرائيل كدولة تمييز عنصرى.
ورغم كل ما سبق لا يتزحزح الانقسام عن مكانه رغم جهود المصالحة المصرية المخلصة المستميتة، وأعلم صعوبة المشكلات التى تعرقل المصالحة وتعقدها، ولكنى أثق فى الوقت نفسه أن لكل مشكلة حلا إذا خلصت النيات وأُعليت المصلحة الوطنية على ماعداها، ولذلك فإنه لا تفسير عندى لاستمرار عقم جهود المصالحة سوى أن الممسكين بزمام الأمور فى طرفى الانقسام مستفيدون منه ومكتفون بمغانمه ولو على حساب المصلحة الوطنية ومصالح الشعب الفلسطينى مع غياب أدنى إحساس بالخطر الداهم الذى يحيط بمستقبل القضية الفلسطينية والمسئولية عن درء هذا الخطر، وهكذا تشهد الساحة الفلسطينية الآن مفارقة مؤلمة محصلتها غياب الفعل المؤثر على أرض الواقع، فأحد طرفى الانقسام الرئيسيين ارتضى المسار التفاوضى منذ ربع قرن أى منذ اتفاقية أوسلو رغم ما ثبت من عقمه الكامل حتى بعد استبعاد ترامب القدس من المسار التفاوضى أصلا، بل لقد راحت السلطة الفلسطينية تتحدث عن الحاجة لراعٍ جديد للمسار التفاوضى رغم أن الجميع يعلم بأن وجود هذا الراعى مستحيل لأن أحدا غير الولايات المتحدة لا يستطيع إجبار إسرائيل على تقديم التنازلات المطلوبة للتوصل إلى تسوية مقبولة، أما طرف الانقسام الآخر الذى يرفع شعار المقاومة واسترداد فلسطين من النهر إلى البحر فهو منذ تحول من حركة مقاومة إلى سلطة بعد فوزه فى انتخابات 2006 لا يقاوم إلا على سبيل رد الفعل ومعنِى أساساً ببناء سلطته وتعزيزها بما فى ذلك قبوله أخيرا من حيث المبدأ التوصل إلى هدنة طويلة مع إسرائيل، وسط انتقادات من خصمه الذى كان له السبق بجدارة فى التفاهم والتنسيق مع إسرائيل بينما الشعب الفلسطينى يواصل إبداعاته المقاوِمة وتحمل المعاناة وتقديم التضحيات.
هل آن الأوان على ضوء ما سبق للبحث عن مقاربة جديدة لجهود التوصل إلى المصالحة الفلسطينية لا تتوسل التفاهم والاتفاق من طرفى الانقسام، وإنما تفضح المستفيدين منهم والحجج الزائفة التى يتسترون خلفها لإجبارهم على الاتفاق؟ تحتاج هذه الخطوة إلى حوار جاد وعميق وكذلك إلى مبادرات خلاقة من القوى الوطنية الفلسطينية التى لم تسقط فى بئر المصالح الأنانية الضيقة بالتعاون مع الجهد المصرى المخلص، وما بقى من قوى عربية يمكنها المساهمة فى الخروج من هذا الوضع الخطير. يقينى لا يتزعزع بالانتصار النهائى لحركة التحرر الفلسطينى كما تشير إلى ذلك خبرات التحرر الوطنى كافة، ولكن لماذا الإصرار على رفع التكلفة وإطالة الأمد والسماح للعابثين بمصير فلسطين بالإفلات بفعلتهم على حساب شعبهم وأمن مصر، بل والعرب كافة؟
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع