بقلم - أحمد يوسف أحمد
عندما قرأت فى 17يناير الماضى تصريحاً لرئيس الوزراء يشير فيه إلى أن الرئيس وجه بالتعامل مع المبانى التى مازالت واجهاتها على الطوب الأحمر أصابنى سرور عظيم، فقد كانت هذه الظاهرة تُمَثل نسقاً متكاملاً للقبح، وعلى الفور دب النشاط فى الاجتماع الثالث لمجلس المحافظين وأشار رئيس الوزراء إلى مُهَل محددة للانتهاء من طلاء واجهات المبانى، وأكد اللمسة الحضارية لهذا العمل بتوحيد الألوان، من جانبه صرح المهندس محمد أبو سعدة رئيس جهاز التنسيق الحضارى بأن الخطة ستبدأ بالمبانى الواقعة على طول الطريق الدائرى وصولاً للمتحف المصرى الكبير لأنه ليس من المقبول أن يكون الطريق الموصل للمتحف الكبير بهذا القدر من القبح، وعلمت من تصريحاته أن هناك ما يُسمى المشروع القومى للهوية البصرية أعدته مجموعة من الخبراء بالتنسيق مع اليونسكو وطبقاً لهذا المشروع سيكون لكل مجموعة محافظات لونها الموحد وأن اللون الترابى مقترح للقاهرة تماشياً مع المناخ العام للمدينة! والأمر نفسه بالنسبة لمحافظات الصعيد فيما تختص المحافظات الساحلية باللون الأزرق، وزاد بالحديث عن الأمل فى إزالة عشوائيات الأسطح وفوضى الإعلانات.
كان الأمر كله مبعثاً لسرور حقيقى وإن لم يخل من علامات استفهام مشروعة كما فى البدء بالطريق الدائرى المفضى إلى المتحف الكبير وكأننا نتجمل للغير وليس تعلقاً بقيمة الجمال فى ذاتها وكما فى اقتراح اللون الترابى لمحافظات القاهرة والصعيد، غير أن علامات الاستفهام الأهم كانت تتعلق بالتكلفة والصعوبات والعقوبات، وقيل إن التكلفة ستكون على عاتق ملاك الوحدات السكنية وهذه مشكلة لأن المفروض أن تُباع هذه الوحدات كاملة التشطيب بما فيها الطلاء الخارجى وهذه مسئولية من بنى وليس من اشترى، كذلك يُلاحظ أن مالكى الوحدات قد تصرفوا باعتبار أن غياب الطلاء وضع نهائى فوضعوا اللافتات التى تشير إلى أنشطتهم وأجهزة تكييفهم وهو ما يُعقد التنفيذ كثيراً، وأما العقوبات فقد اقتُرحت عقوبات غليظة مثل حرمان هذه الوحدات من المرافق علماً بأنه قد تم توصيلها فعلاً، وقد يكون الأنسب هو فرض الغرامات وعدم توصيل المرافق مستقبلاً لأى بناية لا تفى بالشروط المطلوبة، غير أن كل هذا الجدل لم يُفلح فى تبديد هاجس تملكنى بسبب خبرة سابقة بموضوع الطلاء الجماعى للمبانى، فقد كنت أسكن فى بناية حديثة بشارع الهرم وكان لونها عاجياً وقوراً ونوافذها مطلية بلون الكاكاو ومظهرها الخارجى لطيفاً بصفة عامة، ثم تقرر فى ظروف لا أعلمها طلاء جميع الواجهات فى الشارع باللون الوردى، ولم أدر كيف يتم ذلك إلى أن عدت يوماً من عملى لأجد جلبة ناجمة عن حديث بعض الأفراد بالقرب منى وكنت أسكن الطابق الثانى، وعندما أنصت جيداً اكتشفت أن ثلاثة رجال موجودون بشرفة منزلى المطلة على شارع الهرم، وفهمت أنهم وصلوا إليها عن طريق سقالة بدائية تتدلى بطول العمارة فيقوم أحدهم بالمرور على الجزء المواجه له من المبنى بفرشاة عريضة ويتكرر الأمر بسرعة لافتة دون أدنى اهتمام بوجود عوائق من لافتات أو أجهزة أو خلافه، وعندما فتحت نافذة غرفة نومى فى صباح اليوم التالى اكتشفت أن لونها الخارجى قد أصبح أخضر فاقعاً وهكذا أصبح لنوافذى لونان أحدهما داخلى والثانى خارجى، وكانت النتيجة النهائية للعمل الذى تم بسرعة فائقة تدعو للكآبة، وحاولت التكيف مع الواقع الجديد حتى حل الشتاء وهطلت الأمطار واكتشفت بعدها أن لون البناية ونوافذها قد عاد إلى سابق عهده تماماً وكأن أحداً لم يمسسه بسوء من أسابيع قليلة! والمعنى واضح.
مرت الأيام بعد 17يناير وهدأ الجدل حول الموضوع وتصورت أن الاهتمام قد خفت به خاصة وأنى لم ألحظ تغيراً يُذكر على آلاف البنايات التى أمر عليها يومياً فى طريقى إلى عملى إلى أن مررت منذ أيام قليلة بجزء من الطريق الدائرى مغاير للجزء الذى أسلكه فى طريقى لجامعة القاهرة وإذا بى أشاهد من بعد بنايات شاهقة ملونة بلون عاجى زاعق لا يُنبئ بخير، وعندما اقتربت صُعِقت من هول المشهد، فقد اكتشفت أن هذه البنايات قد تم طلاؤها بإهمال ظاهر على الطوب الأحمر مباشرة دون محارة بلغة أهل البناء، وبدا المشهد مفزعاً خاصة أن البناء بالطوب الأحمر عادة ما تكون فيه تشوهات يتركها البناؤون لعلمهم أنه سيأتى من بعدهم من يصلحها، وعادت ذاكرتى على الفور لكابوس طلاء منزلى القديم، ومن يعرف الطريق الدائرى وما يحيط به من بنايات يدرك الكارثة التى يمكن أن تحدث لو تم تعميم هذه التجربة الرائدة، وتصورت ماذا يمكن أن يكون عليه شعور الرئيس إذا أدرك المصير الذى ينتظر توجيهه الحضارى بسبب بلادة بيروقراطية متأصلة، ولا أُريد أن أستنجد به أو برئيس الوزراء أو حتى بوزير التنمية المحلية، فقد آن أوان وضع الأمور فى نصابها وأن يتحمل المسئولون الصغار مغبة أفعالهم أو تقاعسهم عن المتابعة، ولكنى ألوذ بالمهندس محمد أبو سعدة بأن يستخدم كل ما لديه من سلطة أو نفوذ لوقف هذه المهزلة قبل استفحالها بحيث لا ينطبق المثل الشعبى: جه يكحلها عماها, على الموظفين البيروقراطيين فاقدى الرؤية والإحساس بالجمال الذين سبق لنظرائهم أن أشرفوا بإخلاص ودأب على تزيين مداخل مدن مصرية عديدة بأبشع التماثيل أو ترميم أخرى على نحو أهان رموزاً تاريخية مصرية، كما أدعو كل مصرى يدرك القيم الجمالية فى حضارته الممتدة لآلاف السنين أن ينتفض بالرأى والمشورة حتى لا نهدر مواردنا المحدودة فى معالجة القبح بالمزيد منه، وتكفينا أرتال القمامة والمشاهد المخجلة على جانبى خطوط السكك الحديدية والأعلام الممزقة التى ترتفع فوق مقار عديد من المؤسسات رغم أن هذه الأعلام ترمز للوطن الحبيب ومكانته وهيبته.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع