بقلم - أحمد يوسف أحمد
عندما يُسأل المواطن السوى عن نظام الحكم الأفضل يجيب دون تردد أنه النظام الديموقراطي، ومع ذلك فإن الامر ليس بهذه البساطة فالعملية الديمقراطية مسألة شديدة التعقيد، وعلى سبيل المثال فإن الآلية الأهم لتحقيق الديموقراطية هى الانتخابات التى يصل بموجبها إلى مواقع السلطة من تختارهم الأغلبية والاستفتاءات التى تقرر بها الشعوب اختياراتها فى قضايا مصيرية، غير أن المشكلة أن الانتخابات لا تأتى بالضرورة بأفضل العناصر، ويكفى مثلاً أن يؤجج مرشح مشاعر فى الجماهير قد تكون غير سوية غير أنها تدغدغ عواطفهم فيتم انتخابه ثم تحدث الكارثة، فقد وصل هتلر إلى السلطة فى ألمانيا 1933 بانتخابات ديموقراطية استغل فيها مشاعر الإحباط التى كان يعيشها الشعب الألمانى بعد الهزيمة فى الحرب العالمية الأولى والتسويات المُذلة بعدها، ثم كان ما كان من نظام سياسى شمولى لم تقتصر تداعياته الكارثية على الشعب الألمانى وحده وإنما دفع العالم كله ثمناً باهظاً نتيجة السياسات التوسعية لهتلر. وفى الانتخابات النيابية قد تأتى هذه الانتخابات بالأغنياء الذين يستثمرون أموالهم فى جمع الأصوات أو بالمستندين إلى انتماءات عائلية أو قبلية أو دينية أو عرقية بغض النظر عن اعتبارات الكفاءة، وفى الاستفتاءات ثبت أنه ليس من المؤكد أن تكون خيارات الرأى العام رشيدة دائماً، وقد اختارت غالبية البريطانيين فى استفتاء خروج بلدهم من الاتحاد الأوربى مع أن قطاعاً واسعاً من الخبراء والمحللين كان يرى أن هذا الخيار لا يصب فى المصلحة الوطنية، وبسبب المشاعر القومية القوية صوت أكراد العراق لصالح دولة مستقلة كان الجميع يعلم سلفاً أنها لن تكون قابلة للحياة لاعتبارات داخلية وخارجية وسرعان ما تأكد هذا بعد الاستفتاء بمدة وجيزة، ويجب أن يكون واضحاً أن الأمثلة السابقة كافة تنطبق على الانتخابات والاستفتاءات النزيهة لأن غيرها لا علاقة له بالديموقراطية أصلاً وعلى الفور سوف يُفَسر البعض التحليل السابق بأنه مناهض للديموقراطية وهو استنتاج غير صحيح لأن الغرض منه التنبيه إلى أن الظواهر السياسية شديدة التعقيد وأنه من الخطأ النظر إليها من جانب واحد أما الديموقراطية فتبقى أفضل نظام للحكم وعيوبها أقل بكثير من عيوب أى نظام آخر، ومن أهم أبعاد هذه الأفضلية أنها تتضمن آليات تصحيحها طالما بقى جوهرها الديموقراطى قائماً، وأهم هذه الآليات هى الانتخابات الدورية والحريات السياسية والإعلامية التى تمكن معاً من التقييم الدائم لمخرجات النظام الانتخابى بالنقد الدائم لأداء المسئولين ومن ثم إمكانية تصحيح خيارات الناخبين مع كل انتخابات جديدة ناهيك بوضع حد زمنى أقصى لتولى المسئولين الحكم، وتعد حالة الرئيس الأمريكى الحالى مثالية فى هذا الصدد، فقد وصل إلى الرئاسة بالآلية الانتخابية، وإن كانت الملاحظة واجبة ابتداءً لحقيقة أن النظام الأمريكى المعقد لانتخاب الرئيس وهو نظام المُجَمع الانتخابى أو الكلية الانتخابية يسمح بأن يفوز بالرئاسة من لم يحصل على أغلبية أصوات الناخبين لأن أصوات ممثلى الولاية فى المُجَمع الانتخابى تذهب كلها لصالح المرشح الحاصل على أغلبية الأصوات فيها، وهو ما حدث مع الرئيس الحالى حيث تفوقت عليه منافسته فى الأصوات المباشرة للناخبين بنحو ثلاثة ملايين صوت، وقد فاز بالانتخابات لأنه نجح فى استثمار مشاعر معينة لدى قطاعات ثبت أنها واسعة من الأمريكيين مثل البيض وأتباع ما يُسمى بالصهيونية المسيحية الذين كان نائبه فاعلاً فى حشدهم وبطبيعة الحال اللوبى الصهيونى فضلاً عن العمال الذين أفقدتهم العولمة وظائفهم وغيرهم، واستخدم ترامب شعارات عاطفية رنانة مثل أمريكا أولاً واستعادة أمريكا العظيمة وتخليص الشعب الأمريكى من حكم «مؤسسة واشنطن» وكانت نتيجة هذا كله أن وصل إلى سدة الحكم شخص ليست لديه أدنى خبرة سياسية وهو الأمر الذى نراه منعكساً بوضوح فى الارتباك الجلى داخل إدارته كما يبدو بصفة خاصة فى تناقض كثير من المواقف بينه وبين أركان هذه الإدارة وبصفة خاصة وزيرى الخارجية والدفاع، ناهيك بالعديد من التصريحات التى تحمل نبرات تهديدية فى مواجهة كوريا وإيران وغيرهما دون أن تفضى إلى أى شئ عملي، ويُضاف هذا إلى سرعة معدل الخروج من إدارته لأسباب مختلفة، وقدرة غير مسبوقة على كسب الأعداء دون مبرر كما فى حلفائه فى حلف الأطلنطى والاتحاد الأوربى وشركائه فى اتفاقيات التجارة الحرة متعددة الأطراف والدول الإسلامية التى منع مواطنيها من السفر إلى الولايات المتحدة والعرب وعموم المسلمين والمسيحيين الذين أغضبهم بقراره الخاص بالقدس وأخيراً ـــ ومن الواضح أنه لن يكون آخراً ــ الدول الأفريقية التى وصفها فى اجتماع مغلق بأنها «حثالة» وذلك دون أن نذكر كلمة واحدة عن سلوكه الشخصى وما يُثار حوله.
وقد بدأت آليات التصحيح الديموقراطية عملها فور اتضاح طبيعة أداء الرئيس ومضمونه فتعرض لانتقادات لاذعة من الإعلام الأمريكى والمثقفين والفنانين الأمريكيين، وسرعان ما تكشفت مسألة التدخل الروسى فى الانتخابات عن طريق معاونين له وهى مسألة خطيرة يجرى التحقيق فيها بالفعل، بل لقد بدأ البعض يتحدث عن إمكانية عزله قبل انتهاء ولايته وليس ذلك بالمسألة السهلة ما لم تثبت مخالفة صارخة للدستور كما حدث مع نيكسون فى 1976 كما أن أنصاره باقون على تأييدهم له وإن تقلصت شعبيته، لكن المشكلة الحقيقية أن «القيادة» الأمريكية للعالم قد فقدت الكثير من مقوماتها المعنوية بعد أن اكتسب ترامب كل هذا العداء والاستهجان الذى وضع الدول حتى الصغيرة منها فى موقف لا تستطيع معه أن تؤيد السلوك الأمريكى حتى تحت التهديد الفج كما بدا فى تصويت الدول فى موقعتى مجلس الأمن والجمعية العامة على مشروعى القرارين الخاصين بالقدس وكذلك فى بيان الاتحاد الأفريقى الأخير الذى طالبه بالاعتذار عن تصريحاته المهينة للدول الأفريقية.
نقلا عن الاهرام القاهريه