فى مرحلة من مراحل الصراع السورى شاع مصطلح «سوريا المفيدة» كتعبير عن القلب الحيوى لسوريا استراتيجياً وديموغرافياً، وكنت أبغض هذا التعبير لما يعطيه من انطباع بأن أسداً قد اقتنص فريسة لا يقدر على التهامها كلها فاكتفى بالقطع الممتازة منها، ولعلى الآن أطرح مصطلحاً آخر هو «سوريا الكاشفة» على أساس أن تبلور الأوضاع فى سوريا على النحو الذى نراه أصبح كاشفاً لكل ما يجرى على الأرض العربية من تفاعلات محلية وعربية وإقليمية وعالمية، وأصبحت سوريا نموذجاً مصغراً بالغ الدلالة على «لعبة الأمم» وهى لعبة بغيضة لا تعرف إلا لغة المصالح, ولا يمكن لأحد أن يشارك فيها دون أن يمتلك أدوات اللعب التى لا تعرف إلا لغة القوة ولتذهب الاعتبارات القانونية والإنسانية إلى الجحيم، وإذا بدأنا بالصعيد المحلى فإن النظام السورى كنظم عديدة فى الوطن العربى نظام غير ديمقراطى ربما يكون قد حقق إنجازات ما لشعبه فى مجالات غير سياسية, أو تبنى مواقف وطنية أو قومية لكن ممارساته السياسية ألحقته بالنظم التى انتفضت عليها شعوبها لكنه كان أكثر استعدادا من غيره فلم يسقط كما سقطت بل إنه يبدو الآن أقوى من أى وقت مضى بعد أن كاد يخسر اللعبة قبل التدخل الروسي.
وعلى الصعيد العربى جرت تفاعلات النظام السورى فى بيئة عربية مفككة, خاصة فى أيام «الربيع العربي» وفيها عمد عدد من النظم صاحبة الإمكانات إلى التحرك ضد النظام السورى, ليس من قبيل الانتصار لشعبه وإنما لتصفية الحسابات مع نظام اتبع سياسات أحرجت تلك النظم، ولأنها لم تكن مخلصة لثورة الشعب السورى فقد صب تدخلها فى النهاية فى مجرى «عسكرة الثورة» بدعم تنظيمات مسلحة إرهابية أو شبه إرهابية ترفع بالباطل شعارات «إسلامية».
ولأن تلك النظم كذلك لم تكن على قلب رجل واحد فقد دبت الخلافات كثيراً بين ميليشياتها المتناحرة وكان فى هذا نهاية فعلية للثورة, فقد أصبح خصوم النظام أسوأ منه بكثير, وأصبح لهذا الأخير على الأقل فضل الدفاع عن كيان الدولة السورية التى كان تفككها ينذر بعواقب عربية وخيمة.
وعلى الصعيد الإقليمى كانت سوريا كاشفة كذلك للمدى الذى وصل إليه الاختراق الخارجى للنظام العربي، وجاء هذا الاختراق حيناً لمصلحة النظام السورى كما تمثل فى مساندة النظام الإيرانى وأتباعه وعلى رأسهم «حزب الله», وحيناً آخر ضده. كما تمثل فى التدخل التركى غير المباشر والمباشر الذى اتخذ أخيرا شكل الغزو الصريح بدعوى الحفاظ على الأمن التركى من خلال إجهاض أى احتمال لبزوغ كيان كردى على الأراضى السورية يمكن أن يكون فاتحة لتطورات خطيرة تلحق بأكراد تركيا ذاتها، أما إسرائيل فلها مع النظام السورى ثأران أحدهما يتعلق بمواقفه الممانعة فى الصراع العربي-الإسرائيلى, والثانى بدعمه «حزب الله», ناهيك بعلاقة النظام السورى بإيران.
أما على الصعيد العالمى فحدث ولا حرج عن «لعبة الأمم»، فقد بلغ الاختراق أوجه قبل «الربيع العربي» بسنوات بالغزو الأمريكى للعراق غير أن «موجات الربيع» وبالذات فى ليبيا وسوريا فاقمت من هذا الاختراق، فقد طلبت الجامعة العربية تدخلاً دولياً فى ليبيا, وطلب النظام السورى تدخلاً عسكرياً روسياً مباشراً، وفى البداية كان الجالس فى البيت الأبيض يتمتع بالرشادة فامتنع عن الانخراط فى اللعبة السورية اتعاظاً بما آل إليه غزو العراق ثم حل محله من أصبح يغير مواقفه كما يغير رباط عنقه, فكان أن بدأ وجوداً عسكرياً محدوداً فى سوريا وإن يكن فاعلاً لأن أحداً لا يستطيع القضاء عليه، وبدأ يعطى نفسه الحق فى «معاقبة» النظام السورى بحجة استخدامه السلاح الكيماوى كما حدث فى غارة «الشعيرات» وكأن إزهاق الأرواح بالأسلحة التقليدية لا غبار عليه.
وهكذا اكتملت الحلقة وأصبح جميع اللاعبين على الساحة لا تحكم تحركاتهم سوى مصالحهم وليذهب الشعب السورى -الذى يدعى الجميع أنهم يبذلون الغالى والنفيس من أجله- إلى الجحيم، ولهذا تغيرت التحالفات غير مرة كما يظهر بصفة خاصة فى السياسة التركية التى تبدو مثالاً فجاً على البلطجة السياسية وآخر تجلياتها موقفها من الضربة الثلاثية الأخيرة لسوريا.
ومع اقتراب معركة الغوطة من نقطة الحسم بدا أن النظام السورى وحلفاءه على وشك تحقيق انتصار, ولذلك كان لابد من عمل شىء فدُبرت المناحات على ما يجرى فى الغوطة فى الوقت الذى كانت تركيا تدك فيه «عفرين» دون أن يذكرها أحد بكلمة, ثم كانت المفارقة أن يُتهم النظام السورى باستخدام الأسلحة الكيماوية فى الغوطة فى الوقت الذى بدأت علامات انتصاره فى الظهور بالاتفاق على خروج «جيش الإسلام».
ولا يدرى أحد لماذا يعرض النظام السورى نفسه لعقاب سبق أن تعرض له دون داع، ومن حق كل إنسان سوى أن يطالب بدليل على استخدام النظام السلاح الكيماوى لأنه ربما يكون قد استُخدم من قِبَل جهات معادية تريد أن تمنع وصول الصراع فى سوريا إلى نقطة النهاية لأسباب يعلمها الجميع، وتبدو المطالبة بالدليل أكثر من مشروعة على ضوء الكذب البواح الذى سبق الغزو الأمريكى للعراق بادعاء امتلاكه أسلحة دمار شامل.
ولأن «لعبة الأمم» بدت خطيرة فى هذه المرحلة فلا مانع من إخراج يتيح للجميع الحفاظ على ماء الوجه فيتم توجيه الضربة بعد فترة إنذار كافية تتيح التحسب لها، ولا بأس من توجيهها لأهداف محددة لا تصيب روسيا بأى ضرر مادى وإن تضررت معنوياً ولكن ليس إلى الدرجة التى تخرجها من اللعبة، ولا بأس من السماح لكل اللاعبين بالادعاء بأنهم حققوا أهدافهم وليكن الله فى عون سوريا الحبيبة وشعبها ولا عزاء للعرب فى أمنهم القومي.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع