بقلم - أحمد يوسف أحمد
بهذا المقال أنضم للحوار المهم والمثير الذى بدأه الكاتب الكبير نيوتن فى المصرى اليوم بمقالته «الفيدرالية خيال مشروع» الذى عقبت عليه الأستاذة الدكتورة نيڤين مسعد السبت الماضى بمقالة عنونتها «هل تصلح الفيدرالية للدولة المصرية»؟، وفى اليومين التاليين مباشرة عقب صديق العمر الدكتور أسامة الغزالى فى عموده اليومى مرة بعنوان «دولة فيدرالية»! والثانية بعنوان «النموذج الألمانى»، وبينما كان جوهر تعليق الدكتورة نيڤين مسعد أن الحالة المصرية تختلف كلية عن الحالات التى نشأت فيها التجارب الفيدرالية حيث نشأت الدولة المركزية فى مصر منذ آلاف السنين فى ظروف طبيعية، ناهيك بدرجة التجانس العالية بين سكانها على نحو ينتفى معه مبرر اللجوء إلى الفيدرالية، فإن الدكتور أسامة الغزالى انحاز لفكرة الأخذ بالنظام الفيدرالى فى مصر حيث ذكر فى عموده الأول أنه كتب منذ عام مقالاً بعنوان «حلم اللا مركزية» ذكر فيه أن المطلب أو الشرط الأهم لانطلاق مصر هو اللامركزية وكررها ثلاثاً، وأنه تردد آنذاك فى استعمال تعبير الفيدرالية تجنباً لاعتراضات معتادة تنطلق من الخوف من تفتيت مصر، وهو خوف ليس له فى رأيه أى سند موضوعى وينطوى على مبالغة شديدة بسبب الوحدة والتجانس الجغرافى والبشرى اللذين ميزا مصر عبر العصور، واعتبر أن حل الكثير من مشكلات مصر والإنجاز السريع والكفء لأهدافها يرتبط بكسر المركزية المفرطة ليس فقط بتحقيق أقصى قدر من اللامركزية وإنما أيضاً بالتحول إلى نظام فيدرالى سوف يطلق طاقات كامنة وهائلة، وفى العمود الثانى ركز على النموذج الفيدرالى الألمانى، والحوار يدور إذن بين وجهتى نظر تطرح الأولى الفيدرالية شكلاً للدولة المصرية بينما ترى الثانية أن ظروف الحالة المصرية تختلف كلياً عن الحالات التى أخذت بالفيدرالية، وثمة ملاحظتان أشارك بهما فى هذا الحوار المهم.
فى الملاحظة الأولى أؤكد عبقرية الصيغة الفيدرالية كآلية لتكامل الكيانات التى تتنازعها رغبتان متناقضتان أولاهما النزوع إلى تكامل يوفر لها اقتصاداً أوسع وقوة أكبر، والثانية الحفاظ على ذاتيتها تحسباً لطغيان الكيانات الكبيرة على الصغيرة أو العكس فى عملية التكامل، ذلك أن المعتاد أن تتباين الكيانات الراغبة فى التكامل من حيث عدد السكان والمساحة والثروة وغيرها، ومن هنا جاءت الصيغة الفيدرالية التى يعود الفضل فيها للتجربة الأمريكية، حيث أقامت هذه الصيغة توازناً دقيقاً بين الصغير والكبير، فلكل كيان فى التكامل مهما يكن وزنه سلطاته التى يمارسها فى حرية كاملة طالما احترم السلطات الفيدرالية التى تتعلق أساساً بالسياسة الخارجية والدفاع والعملة، كما أن السلطة التشريعية تتكون عادة من مجلسين يعكس أولهما المساواة بين تلك الكيانات فلكل ولاية أمريكية فى مجلس الشيوخ عضوان مهما يكن عدد سكانها، أما الثانى فتُمثل فيه الولايات بعدد من الأعضاء يعكس حجم سكانها، ولا يصدر تشريع إلا بموافقة المجلسين، وهكذا تجمع الكيانات الداخلة فى العلاقة التكاملية بين الحسنيين: مزايا الكيانات الكبيرة والحفاظ على ذاتيتها، ويجب أن يكون واضحاً أن هذه العملية خاصة فقط بنشأة الدول نتيجة اتحاد كيانات متباينة، ولم تُطرح الفيدرالية أبداً كشكل لدولة متجانسة لا تعانى من أى مشكلات كمصر، ولا توجد فى حدود علمى حالات تحولت فيها دول بسيطة (أى ذات مركز واحد للحكم) إلى دول مركبة (أى فيدرالية مثلاً) إلا الحالتان العراقية واليمنية اللتان سأشير إليهما لاحقاً بينما العكس قد حدث كما فى تحول المملكة الليبية فى مطلع ستينيات القرن الماضى من الفيدرالية إلى الدولة الموحدة، ومن الأهمية بمكان ملاحظة أنه على الرغم من عبقرية الصيغة الفيدرالية وتفردها فإنها لا تمثل فى حد ذاتها حلاً سحرياً للمشكلات وإنما ثمة شروط موضوعية لنجاحها أهمها الديمقراطية، وليست صدفة أن التجارب الفيدرالية الناجحة اتسمت جميعها بالديمقراطية، وهل ننسى أنه كما توجد التجارب الأمريكية والألمانية والكندية والسويسرية والهندية توجد التجربتان السوفيتية واليوجوسلافية.
أما الملاحظة الثانية فتنبع من السياق العربى وتشير إلى أن الفيدرالية فيه كانت دوماً مفهوماً مشوهاً، فعندما طرحها بعض القوميين العقلاء كصيغة للوحدة المصرية - السورية اتُهموا بالتفريط فى قضية الوحدة، ورغم الدروس الواضحة للانفصال السورى1961 فإن التجربة اليمنية لم تستفد بها وأخذت بالصيغة الاندماجية الموحدة ذاتها، مع أن تجربة الإمارات الناجحة كان قد انقضى عليها نحو العقدين، وأذكر أننى حضرت جانباً من مناقشات الوحدة اليمنية فى صنعاء وتجاسرت على طرح الصيغة الفيدرالية، ولولا حسن العلاقة مع الأخوة اليمنيين لحدث ما لا تُحمد عقباه، ومن ناحية ثانية تكرر تشويه المفهوم الفيدرالى فى التجربة العراقية التى تمتع فيها الإقليم الكردى بوضع فيدرالى اسماً لكنه كان فى الواقع دولة داخل الدولة بقوات مسلحة مستقلة وتمثيل دبلوماسى فى السفارات العراقية وقيود على دخول العراقيين غير الأكراد إلى الإقليم وهكذا، أما الحالة اليمنية ونتيجة لمشكلات الوحدة التى ترتبت على فساد النظام اليمنى السابق واستبداده فقد خلص مؤتمر الحوار الوطنى بعد انتفاضة 2011 إلى تقسيم اليمن لستة أقاليم على أساس تفادى التذكير بالانقسام إلى شمال وجنوب، ولم أكن مستريحاً لهذه النتيجة لأنها كان من الممكن أن تفضى لمزيد من التفكك وإن لم توضع موضع التطبيق الفعلى بسبب الصراع الدائر حاليا، وفيما عدا الحالتين العراقية واليمنية لا أعرف حالات أخرى ارتدت من دولة موحدة إلى دولة اتحادية، فهل تكون مصر النموذج التاريخى للدولة الموحدة هى بالذات التى تبدأ هذا المسار فى وقت نكافح فيه باستماتة من أجل الحفاظ على كيان الدولة الوطنية العربية وتتكاثر فيه دعاوى التفتيت والتقسيم وخرائط المؤامرات الدولية المحرضة على ذلك؟ لا شك أن حلم الصديق العزيز أسامة باللامركزية أكثر من مشروع، ويعنى الكثير بالنسبة لمستقبل مصر لكن المبادرة بالدعوة إلى الفيدرالية أمر جد مختلف.
نقلا عن الاهرام القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع