توقيت القاهرة المحلي 14:27:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نهاية الحقبة النفطية

  مصر اليوم -

نهاية الحقبة النفطية

بقلم - جمال عبدالجواد

 لم يكن عصر الازدهار النفطي شأنا خليجيا فقط، فآثار الثروة النفطية وصلت إلى كل بلد وكل بيت في المنطقة. ما من بلد في العالم العربي إلا وتلقى دعما ماليا من دولة خليجية، أو استقبل استثمارا قادما من هناك؛ وما من بيت إلا وفيه واحد سافر للعمل في بلاد الوفرة النفطية. الثروة النفطية كانت هائلة الحجم، فأدخلت المنطقة كلها في حقبة دامت لأربعين عاما، ولكنها أخيرا توشك على الانتهاء.

الإصلاحات في بلاد الخليج تؤذن بنهاية الحقبة النفطية. لم يعد وقود السيارات في دول الخليج الغنية بالنفط أرخص من الماء. لم تعد الدولة الخليجية مصدرا للعطايا المجانية لمواطنيها. لم يعد الاستيلاء على أموال الدولة حقا لأمراء يعتبرون أنفسهم ملاكا للكنز النفطي المدفون في باطن الأرض. لم تعد الضرائب مفهوما غريبا على المواطن الخليجي الذي لم يطالبه احد بدفع الضرائب منذ هبطت ثروة النفط.

كل هذا يتغير الآن وبسرعة. لكن أثر سنوات الوفرة النفطية لن يختفي بمجرد الأخذ بسياسات جديدة. لقد نقل النفط دول الخليج من العوز إلى الرفاهة، ولكن هذه النقلة الرائعة لم تكن بلا ثمن. أدخلت سنوات الوفرة قيما جديدة على ثقافة المجتمع، ولن تختفي هذه القيم بمجرد تبديل السياسات. الوفرة المالية ونظام العطايا المجانية فصم العلاقة بين الجهد والمكافأة، وهي العلاقة التي تعتبر واحدا من أهم أسس قيام المجتمع والحضارة البشرية. في دولة الرفاه النفطية كان يمكن للفرد الفوز بثروة هائلة دون جهد على الإطلاق، أو أن يبذل القليل من الجهد، فيحصل في مقابل ذلك على ثروة لا تتناسب بالمرة مع الجهد المبذول. الشيء الإيجابي هو أن أحدا لم يحرم من الحصول على نصيب من الثروة، لكن طريقة توزيع الأنصبة كانت تحكمية وكريمة بلا قواعد. أما الآن فقد بات من الضروري إقناع الناس بأن العمل والجهد هو الطريق الوحيد للحصول على المكافأة، وأن المكافأة يجب أن تتناسب مع حجم الجهد من ناحية، ومع العائد الناتج عن هذا الجهد من ناحية أخرى. إذا كان هناك من تحد يواجه عملية الإصلاح الجارية في دول الخليج النفطية، فإنه ذلك التحدي المتعلق بنظام القيم التي أرساها النفط في النفوس والثقافات.

أثر الحقبة النفطية على المجتمع والاقتصاد عندنا لم يكن أقل شأنا عن أثره في بلاد الثروة النفطية. منذ منتصف السبعينيات وآلاف المصريين يهاجرون شرقا وغربا إلى بلاد النفط. الأجور في بلاد النفط أعلى كثيرا من نظيرتها في بلادنا. العمل هناك لم يكن يأتي بالرزق فقط، وإنما بالبحبوحة والثروة أيضا. لم يكن العاملون الذين بقوا داخل البلاد ليشعروا بفداحة انخفاض دخولهم لولا الأجور العالية التي حققها أقران لهم أسعدهم الحظ بالعمل في بلاد النفط. تململ الموظف المصري على مكتبه، وحط عليه الشعور بالتعاسة وسوء الحظ الذي كتب عليه البقاء في الداخل، بينما الآخرون يغرفون بلا حساب من الثروة في الخارج. أصبح الداخل مرادفا للبؤس، بينما أصبحت «بلاد برة» عالما أسطوريا يستحم فيه الناس باللبن والعسل.

كان الخارج المرفه يأتي إلينا في موسم الإجازات من كل عام، محملا بملابس فاخرة، وتليفزيونات ملونة، ومراوح، وأجهزة تسجيل، وسيارات. يا له من ضغط اجتماعي وعصبي ذلك الذي تحمله أهل الداخل في تلك الأيام. لم يكن الضغط اجتماعيا فقط، لكنه كان ضغطا اقتصاديا أيضا. القادمون من الخارج كانوا مستعدين لدفع أثمان أعلى للسلع المحدودة الموجودة في الأسواق، فارتفعت أسعار كل شيء، من الخضار إلى شقق السكن، فأصبحت حياة أهل الداخل أكثر عسرا. لم يعد القادمون من الخارج يرضون بالمنتجات المتواضعة التي تنتجها مصانعنا، فزاد الاستيراد من الخارج. حلت تجارة المستورد محل التصنيع المحلي. تناقصت الوظائف المنتجة، وزادت البطالة، ولجأ الناس لوظائف خدمية وطفيلية. تحولت ثقافة الناس من «كسب الرزق» إلى «تقليب العيش» ومن «العمل» إلى «السبوبة» ومن «المأمورية» إلى «النحتاية» أما الزبون فلم نعد نبحث عنه لكي نبيع له سلعة أو خدمة، إنما لكي «نقلبه».

لم تعد الأجور المدفوعة في الداخل تشجع على العمل. تدهور الأداء العام في مصالح الحكومة وهيئاتها، وفي قطاع الدولة العام، بعد أن كف الموظفون عن بذل ما كانوا يبذلونه في السابق من جهد. اكتفى بعض الموظفين بالعمل «على قد فلوسهم». تغيب البعض عن العمل، أو غادره مبكرا للعمل في وظيفة ثانية تدر دخلا إضافيا. فتح آخرون الدرج لتلقي مساهمات المواطنين الإجبارية لتحسين دخل الموظف الحكومي. التدهور السريع في مستوى التعليم منذ الثمانينيات لم يكن سوى نتيجة لقرار جماعي اتخذه المدرسون للحصول - وهم في الداخل - على نفس الدخل الذي يحققه أقرانهم في الخارج النفطي، فحلت المجاميع والسناتر والدروس الخصوصية محل التدريس في الفصول.

كشف حساب الحقبة النفطية فيه إيجابيات وسلبيات. البيانات تؤكد أن مستويات المعيشة ودخول الأفراد تحسنت كثيرا في جميع بلاد المنطقة خلال سنوات الثروة النفطية. الناس الآن يعيشون عددا أكبر من السنوات، ويركب عدد أكبر منهم السيارات، ويستخدمون الهواتف، ويسكنون في بيوت أكبر، تصلها المياه والكهرباء. الأفراد في البلاد التي نجت من أعاصير الربيع العربي أفضل حالا عما كانوا عليه قبل هبوط ثروات النفط، لكن الأوطان ليست بالضرورة أفضل حالا، فالمجتمعات أصبحت أكثر انقساما وتفتتا، وثقة الناس في الحكومات واحترامهم لها أصبح أقل، وتفاؤل الناس بالمستقبل أصبح مشكوكا فيه. هذا هو كشف حساب الحقبة النفطية.

سيظل الشرق الأوسط منتجا للنفط حتى آخر يوم يحتاج فيه العالم لهذه السلعة الحيوية، لكن فوضى الحقبة النفطية وتسيبها لم يعد قابلا للاستمرار. سياسات الإصلاح الاقتصادي في كل دول المنطقة أصبحت ضرورة لا فكاك منها. لقد أصابت ثروات الحقبة النفطية المنطقة بالاضطراب، وسيكون خروجنا من هذه الحقبة سببا في اضطرابات جديدة، فلنكن مستعدين، ولنضع في كشف الحساب هذه المرة إيجابيات أكثر وسلبيات أقل.

نقلا عن الاهرام القاهري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نهاية الحقبة النفطية نهاية الحقبة النفطية



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon