بقلم - جمال عبدالجواد
لم يكن عصر الازدهار النفطي شأنا خليجيا فقط، فآثار الثروة النفطية وصلت إلى كل بلد وكل بيت في المنطقة. ما من بلد في العالم العربي إلا وتلقى دعما ماليا من دولة خليجية، أو استقبل استثمارا قادما من هناك؛ وما من بيت إلا وفيه واحد سافر للعمل في بلاد الوفرة النفطية. الثروة النفطية كانت هائلة الحجم، فأدخلت المنطقة كلها في حقبة دامت لأربعين عاما، ولكنها أخيرا توشك على الانتهاء.
الإصلاحات في بلاد الخليج تؤذن بنهاية الحقبة النفطية. لم يعد وقود السيارات في دول الخليج الغنية بالنفط أرخص من الماء. لم تعد الدولة الخليجية مصدرا للعطايا المجانية لمواطنيها. لم يعد الاستيلاء على أموال الدولة حقا لأمراء يعتبرون أنفسهم ملاكا للكنز النفطي المدفون في باطن الأرض. لم تعد الضرائب مفهوما غريبا على المواطن الخليجي الذي لم يطالبه احد بدفع الضرائب منذ هبطت ثروة النفط.
كل هذا يتغير الآن وبسرعة. لكن أثر سنوات الوفرة النفطية لن يختفي بمجرد الأخذ بسياسات جديدة. لقد نقل النفط دول الخليج من العوز إلى الرفاهة، ولكن هذه النقلة الرائعة لم تكن بلا ثمن. أدخلت سنوات الوفرة قيما جديدة على ثقافة المجتمع، ولن تختفي هذه القيم بمجرد تبديل السياسات. الوفرة المالية ونظام العطايا المجانية فصم العلاقة بين الجهد والمكافأة، وهي العلاقة التي تعتبر واحدا من أهم أسس قيام المجتمع والحضارة البشرية. في دولة الرفاه النفطية كان يمكن للفرد الفوز بثروة هائلة دون جهد على الإطلاق، أو أن يبذل القليل من الجهد، فيحصل في مقابل ذلك على ثروة لا تتناسب بالمرة مع الجهد المبذول. الشيء الإيجابي هو أن أحدا لم يحرم من الحصول على نصيب من الثروة، لكن طريقة توزيع الأنصبة كانت تحكمية وكريمة بلا قواعد. أما الآن فقد بات من الضروري إقناع الناس بأن العمل والجهد هو الطريق الوحيد للحصول على المكافأة، وأن المكافأة يجب أن تتناسب مع حجم الجهد من ناحية، ومع العائد الناتج عن هذا الجهد من ناحية أخرى. إذا كان هناك من تحد يواجه عملية الإصلاح الجارية في دول الخليج النفطية، فإنه ذلك التحدي المتعلق بنظام القيم التي أرساها النفط في النفوس والثقافات.
أثر الحقبة النفطية على المجتمع والاقتصاد عندنا لم يكن أقل شأنا عن أثره في بلاد الثروة النفطية. منذ منتصف السبعينيات وآلاف المصريين يهاجرون شرقا وغربا إلى بلاد النفط. الأجور في بلاد النفط أعلى كثيرا من نظيرتها في بلادنا. العمل هناك لم يكن يأتي بالرزق فقط، وإنما بالبحبوحة والثروة أيضا. لم يكن العاملون الذين بقوا داخل البلاد ليشعروا بفداحة انخفاض دخولهم لولا الأجور العالية التي حققها أقران لهم أسعدهم الحظ بالعمل في بلاد النفط. تململ الموظف المصري على مكتبه، وحط عليه الشعور بالتعاسة وسوء الحظ الذي كتب عليه البقاء في الداخل، بينما الآخرون يغرفون بلا حساب من الثروة في الخارج. أصبح الداخل مرادفا للبؤس، بينما أصبحت «بلاد برة» عالما أسطوريا يستحم فيه الناس باللبن والعسل.
كان الخارج المرفه يأتي إلينا في موسم الإجازات من كل عام، محملا بملابس فاخرة، وتليفزيونات ملونة، ومراوح، وأجهزة تسجيل، وسيارات. يا له من ضغط اجتماعي وعصبي ذلك الذي تحمله أهل الداخل في تلك الأيام. لم يكن الضغط اجتماعيا فقط، لكنه كان ضغطا اقتصاديا أيضا. القادمون من الخارج كانوا مستعدين لدفع أثمان أعلى للسلع المحدودة الموجودة في الأسواق، فارتفعت أسعار كل شيء، من الخضار إلى شقق السكن، فأصبحت حياة أهل الداخل أكثر عسرا. لم يعد القادمون من الخارج يرضون بالمنتجات المتواضعة التي تنتجها مصانعنا، فزاد الاستيراد من الخارج. حلت تجارة المستورد محل التصنيع المحلي. تناقصت الوظائف المنتجة، وزادت البطالة، ولجأ الناس لوظائف خدمية وطفيلية. تحولت ثقافة الناس من «كسب الرزق» إلى «تقليب العيش» ومن «العمل» إلى «السبوبة» ومن «المأمورية» إلى «النحتاية» أما الزبون فلم نعد نبحث عنه لكي نبيع له سلعة أو خدمة، إنما لكي «نقلبه».
لم تعد الأجور المدفوعة في الداخل تشجع على العمل. تدهور الأداء العام في مصالح الحكومة وهيئاتها، وفي قطاع الدولة العام، بعد أن كف الموظفون عن بذل ما كانوا يبذلونه في السابق من جهد. اكتفى بعض الموظفين بالعمل «على قد فلوسهم». تغيب البعض عن العمل، أو غادره مبكرا للعمل في وظيفة ثانية تدر دخلا إضافيا. فتح آخرون الدرج لتلقي مساهمات المواطنين الإجبارية لتحسين دخل الموظف الحكومي. التدهور السريع في مستوى التعليم منذ الثمانينيات لم يكن سوى نتيجة لقرار جماعي اتخذه المدرسون للحصول - وهم في الداخل - على نفس الدخل الذي يحققه أقرانهم في الخارج النفطي، فحلت المجاميع والسناتر والدروس الخصوصية محل التدريس في الفصول.
كشف حساب الحقبة النفطية فيه إيجابيات وسلبيات. البيانات تؤكد أن مستويات المعيشة ودخول الأفراد تحسنت كثيرا في جميع بلاد المنطقة خلال سنوات الثروة النفطية. الناس الآن يعيشون عددا أكبر من السنوات، ويركب عدد أكبر منهم السيارات، ويستخدمون الهواتف، ويسكنون في بيوت أكبر، تصلها المياه والكهرباء. الأفراد في البلاد التي نجت من أعاصير الربيع العربي أفضل حالا عما كانوا عليه قبل هبوط ثروات النفط، لكن الأوطان ليست بالضرورة أفضل حالا، فالمجتمعات أصبحت أكثر انقساما وتفتتا، وثقة الناس في الحكومات واحترامهم لها أصبح أقل، وتفاؤل الناس بالمستقبل أصبح مشكوكا فيه. هذا هو كشف حساب الحقبة النفطية.
سيظل الشرق الأوسط منتجا للنفط حتى آخر يوم يحتاج فيه العالم لهذه السلعة الحيوية، لكن فوضى الحقبة النفطية وتسيبها لم يعد قابلا للاستمرار. سياسات الإصلاح الاقتصادي في كل دول المنطقة أصبحت ضرورة لا فكاك منها. لقد أصابت ثروات الحقبة النفطية المنطقة بالاضطراب، وسيكون خروجنا من هذه الحقبة سببا في اضطرابات جديدة، فلنكن مستعدين، ولنضع في كشف الحساب هذه المرة إيجابيات أكثر وسلبيات أقل.
نقلا عن الاهرام القاهري