بقلم - جمال عبدالجواد
لدينا مشكلة فى العلاقة مع بعض وسائل الإعلام الغربية ذات التأثير الواسع. تغطى وسائل الإعلام الغربية قضايانا بطريقة انتقائية، تنطوى على تعريض بالأوضاع فى بلادنا، للصورة التى يروجها الإعلام الغربى عنا ضرر وتكلفة كبيرة؛ ولا بديل عن العمل من أجل تفهم أفضل لأحوالنا، الأمر الذى لن يمكن تحقيقه بغير فهم الدوافع التى تقف وراء طريقة الإعلام الغربى فى تناول شئون بلدنا ومنطقتنا.
لا أظنها مصادفة أن وسائل الإعلام التى أثارت تغطياتها المشكلات فى الفترة الماضية، جاءت كلها من بلاد ذات تاريخ إمبريالى عريق. التاريخ الإمبريالى لهذه البلاد خلف فيها حالة ذهنية، يقع الغالبية من مواطنيها فى أسرها، بما فى ذلك المثقفون الرافضون للإمبريالية. لم تكن الإمبريالية الغربية مجرد تدخل صريح فى شئون الأمم الضعيفة فى أطراف العالم، لكنها استطاعت أن تمنح لعدوانها غطاء أخلاقيا، مكن الغربى المتغطرس من الادعاء بأنه لا يستغل شعوب العالم الضعيفة ولا ينهب ثرواتها، وإنما يقوم بدفعها على طريق التحضر؛ فما يقوم به هو رسالة تاريخية، وهو عبء يتحمله زالرجل الأبيضس نيابة عن البشرية؛ لأن ما لدى الغربيين من علم وقيم وأخلاق يؤهلهم لتقرير الاختيارات الأفضل لشعوب تعيش فى بربرية، ومغلوبة على أمرها، تحكمها نخب مستبدة فاسدة. لهذا كان رأى الكتاب والصحفيين الغربيين فى قامات تاريخية نعتبرها علامات فى تاريخنا شاذا؛ فمحمد على باشا كان فى كتابات الغربيين زالباشا الطاغيةس والخديو إسماعيل كان «مستبدا شرقيا مسرفا» وسعد زغلول «محرضا غوغائيا» وجمال عبد الناصر «كولونيلا ديكتاتورا طموحا».
تبدل الحال، ولم يعد الامبرياليون الغربيون يغزون كل عام بلدا جديدا، لكن ذهنية الغرور، والتعالي، وادعاء السمو الأخلاقي، مازالت سائدة فى الغرب. يجب ألا يفهم من كلامى هذا أننا أكثر نبلا وسموا من الغربيين، فنحن لسنا كذلك؛ ونحن لسنا ضحايا لإمبريالية عالمية ومؤامرة كونية، فنحن مسئولون عما يحدث لنا، نرتكب من الأخطاء فى حق أنفسنا ما يزيد عما يرتكبه الآخرون فى حقنا. لكن إدراك هذه الحقائق والاعتراف بها لا يمنعنا من كشف ادعاءات الغربيين وملاحقتها، خاصة تلك التى ترد فى كتابات رحالة وسياح ومستشرقين وصحفيين يقضون فى بلادنا أياما أو أسابيع، يرونها كافية لتأليف الكتب، وتدبيج المقالات، وإصدار الأحكام بشأن هؤلاء الشرقيين وأحوالهم الغريبة.
الجديد فى التغطيات الغربية لشئون الشرق هو ذلك الهجين الفكري، الذى يجتمع فيه موروث الذهنية الإمبريالية، مع روافد فكرية ليبرالية ويسارية، يمكن أن نسميها «ليبريسارية» ليصنع لنا الذهنية السائدة فى الإعلام الغربي. أفكار وقيم اليسار الليبرالى هى الأفكار الأكثر شيوعا فى أوساط الأجيال الشابة فى بلاد الغرب، وتتمتع هذه الأفكار بنفوذ كبير بين الأكاديميين دارسى العلوم الاجتماعية والإنسانيات، وأيضا فى قطاع كبير من وسائل الإعلام الغربية البارزة، حتى كاد هذا المزيج الفكرى «الليبريساري» يمثل الميثاق الأخلاقي، والعقيدة الفكرية، والانحياز الإيديولوجي، لمهنة الإعلام فى الغرب.
تقوم العقيدة «الليبريسارية» السائدة فى الإعلام الغربى على عدد من المبادئ، أهمها الشك العميق فى السلطة، الذى قد يصل إلى حد الرفض المبدئى ـ الفوضوى ـ لها. فالتيار السائد فى الإعلام الغربى يميل لإنكار اقتران السلطة بأى نوع من الفضائل، ولتأكيد أن السلطة هى مؤسسة مؤقتة، تضطر لها المجتمعات، انتظارا لاستكمال النضج، الذى يتيح لجماعات تدير نفسها ذاتيا، التخلى عن السلطة، ووضعها فى متحف التاريخ.
الانحياز ضد العسكريين والجيوش والحرب، هو واحد من مكونات العقيدة «الليبريسارية» الجديدة. الانحياز ضد العسكريين هو اعتقاد مشتق من عقيدة الشك فى السلطة، فالسلطة المسلحة هى أشد أنواع السلطة. وبينما يرفض هذا التيار قيام الجيوش بدور سياسى فى بلاد العالم الثالث، فإنه يطالب بالنزع الذاتى الاختيارى للسلاح من جانب حكومات الدول المتقدمة، ومن ذلك ما يطالب به اليساريون الليبراليون فى بريطانيا من تخلى بريطانيا طوعيا عن السلاح النووي. ويسيطر هذا التيار حاليا على حزب العمال البريطانى تحت قيادة «جيرمى كوربن» الذى يقود الحزب منذ عام 2015، وهناك صلة قرابة فكرية قوية بين التيار المتسيد فى حزب العمال، والتيارات التى توجه هيئة الإذاعة البريطانية.
الانحياز للفرد ضد الجماعة، هو مكون آخر لعقيدة اليسار الليبرالي. للفرد فى عقيدة هذا التيار مطلق القدرة والحرية لتقرير مصيره بنفسه، وأى شيء يمنع الفرد من ممارسة هذا الحق يمثل قيدا مرفوضا. للفرد أن يختار بحرية الجماعة أو الجماعات التى ينتمى لها، أما تلك الجماعات الموروثة والمفروضة على الأفراد فلا تمثل سوى كيانات مصطنعة، يستخدمها أصحاب المصالح للهيمنة على الفرد ولحرمانه من حق الاختيار. وبشكل خاص فإن اليسار الليبرالى الغربى يتشكك بشدة فى فكرة الجماعة الوطنية، ومعها أفكار الهوية الوطنية، والوطن، والدولة، وكلها أشكال من الانتماءات الجماعية التى يرون فيها تقييدا غير ضرورى للفرد وحريته.
أعود إلى علاقتنا مع الإعلام الغربي؛ فالطريقة التى يتبعها قسم من الإعلام الغربى فى تغطية شئون مصر والشرق الأوسط هى فى المقام الأول انعكاس للبنية الفكرية والتحيزات الإيديولوجية التى باتت تحتل مقام «العقيدة» بالنسبة لهذا القطاع؛ وبالتالى فإن المشكلات التى نواجهها فى التعامل مع الإعلام الغربى ليست نتيجة لمجرد النقص فى المعلومات، أو بسبب الأخطاء المهنية التى يرتكبها صحفيون؛ وإنما للأمر صلة وثيقة بالتحيزات الإيديولوجية للإعلام الغربي، وبسعيه الترويج لأفكار وقيم بعينها.
ودون حاجة لإنكار المشكلات الموجودة لدينا، والتى تحتاج إلى معالجة؛ فإن نجاحنا فى التعامل مع وسائل الإعلام الغربية يعتمد على فهمنا للمنطلقات الإيديولوجية التى توجه عملها، ولنجاحنا فى تطوير خطابنا الإيديولوجى والسياسي، وفى إيضاح الأساس الأخلاقى الذى تستند إليه اختياراتنا السياسية. المهم فى كل هذا هو أن نواصل الحوار مع الإعلاميين الغربيين، وأن نشتبك معهم فى حوارات فكرية راقية، لا تقف عند حدود الملاحظات المهنية، خاصة أن مصداقيتنا فيما يخص التقاليد المهنية ليست فى أفضل أحوالها، فالأمر كله يتعلق بالأفكار والرؤى والقيم، وهو المجال الذى مازلنا نتحسس طريقنا فيه.
نقلا عن الاهرام القاهريه