بقلم - جمال عبدالجواد
يثير الرئيس الأمريكي ترامب الكثير من الجدل، مرة بسبب محتوى سياساته، ومرة بسبب طريقته الصاخبة في التعبير عن هذه السياسات. سيهدأ غبار معارك الرئيس ترامب بعد فترة من الوقت، وسينسى الأمريكيون والعالم الكثير من هذه السياسات وسيتكيفون بسهولة معها. صفقة القرن لن تشغل أكثر من صفحة واحدة في كتاب الشرق الأوسط؛ والقيود على دخول المسافرين المسلمين للولايات المتحدة لن تزيد على سطر واحد في تاريخ أمريكا مع العالم الإسلامي؛ ولن يقام الجدار على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك إلا لبضع كيلومترات إضافية ليس لها سوى قيمة رمزية. جانبان فقط من جوانب سياسة الرئيس ترامب سيبقيان معنا لفترة طويلة قادمة: تخلي الولايات المتحدة عن حرية التجارة والعولمة، والتصعيد في العلاقات الأمريكية الصينية؛ ولن يمر وقت طويل قبل أن يدفع العالم كله ثمنا باهظا لهذين التحولين.
القومية الاقتصادية هي أهم مكونات عقيدة الرئيس ترامب السياسية. استعادة عظمة أمريكا هو الشعار الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية. ركزت دعاية ترامب على الفوز بتأييد الأمريكيين الأكثر تضررا من تراجع مكانة أمريكا، والحالمين باستعادة الأيام الخوالي السعيدة. ركز ترامب دعايته على الأمريكيين الذين كانوا على الجانب الخاسر لسياسات العولمة التي تم تطبيقها خلال الثلاثين عاما الأخيرة، ولم يبخل هؤلاء على المرشح ترامب بما يلزمه من أصوات للوصول للبيت الأبيض. وعد ترامب العمال الصناعيين باستعادة الوظائف التي فقدوها, وانتقد الرأسماليين الذين يصدرون وظائف الأمريكيين للدول الأخرى؛ ويتمسك الرئيس ترامب بهذه الخطة من أجل الفوز بفترة رئاسة ثانية.
قادت الولايات المتحدة العالم، طوال الثلاثين عاما الأخيرة، من أجل فتح الأسواق وتحرير التجارة. لم يكن مهما خلال هذه السنوات ما إذا كان يتم إنتاج السلعة داخل الولايات المتحدة أم خارجها، إذا كان يتم إنتاجها بتكلفة أقل وكفاءة أعلى. لا بأس لو فقد بعض الأمريكيين وظائفهم لصالح العمال الصينيين أو الهنود، فسوف يخلق الاقتصاد الأمريكي المتطور والديناميكي وظائف أفضل وأكثر منها.ولا خطر في اعتماد الولايات المتحدة على سلع يتم إنتاجها في بلاد أخرى، فمصالح الدول أصبحت مشتركة غير متعارضة، والأسواق أصبحت مندمجة ومتكاملة، والاعتماد المتبادل بين الدول أصبح حقيقة واقعة.
في مواجهة سياسات العولمة هذه، أصدر المرشح دونالد ترامب إعلان الاستقلال الاقتصادي لأمريكا، والذي حذر فيه من أن المدن ستظل فقيرة، والمصانع ستبقى مغلقة، والحدود ستظل مفتوحة، وأصحاب المصالح الخاصة سيواصلون السيطرة، إذا استمرت سياسات العولمة. حذر ترامب من مخاطر العجز التجاري الأمريكي الذي بلغ 800 مليار دولار، وأشار بأصبع الاتهام للطبقة السياسية التي تقدس العولمة فيما تحط من شأن الوطنية الأمريكية.
وضع الرئيس ترامب هذه المبادئ موضع التطبيق بمجرد انتخابه، ففي غضون شهور قليلة كانت أمريكا قد انسحبت من اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي، وجمدت تطبيق اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية، وبدأت في مراجعة جميع اتفاقات التجارة الخارجية، وبدأت الحكومة الأمريكية في تطبيق سياسة شراء المنتجات الأمريكية بدلا من المستوردة، وأنشأ الرئيس ترامب لأول مرة مكتب السياسة التجارية والصناعية، ووضع على رأسه مستشاره التجاري المعادي لحرية التجارة بيتر نافارو، صاحب كتاب الموت بالصين Death by China.
لقد حدث كل هذا قبل أن يعلن الرئيس ترامب الحرب التجارية على الصين. السياسة الأمريكية الجديدة تجاه الصين تربط بين خطين سياسيين، الخط الأول هو خط القومية الاقتصادية المعادي للعولمة، والخط الثاني هو خط الاستجابة لتحدي الصعود الصيني، والذي هو قضية استراتيجية وأمنية معقدة لها بعد تجاري واقتصادي مهم.
كانت الأمور تسير في اتجاه تحرش تجاري خشن عندما تعلق الأمر بفرض رسوم إضافية على صادرات الحديد والألومنيوم الصينية للولايات المتحدة. لكن الصراع دخل منعطفا خطيرا عندما وصلت العقوبات الأمريكية لعملاق الاتصالات الصينية هواوي. منتجات الحديد والألومنيوم هي منتجات الثورة الصناعية التي تخلي الغرب المتقدم والغني عن إنتاجها بعد أن تبين له أنه يمكنه إنتاجها بتكلفة أقل وربح أكثر لو تم إنتاجها في الصين وغيرها من دول العالم الثالث، فيما يتخصص الغرب في إنتاج بضائع ذات محتوى تكنولوجي عال. غير أن الصين، بقيادة هواوي، استطاعت دخول مجال إنتاج السلع التكنولوجية المتقدمة، ولم يعد إنتاج السلع فائقة التكنولوجيا احتكارا غربيا. منع الصين من دخول هذا المجال فائق الأهمية هو الهدف المباشر الذي تحاول إدارة ترامب تحقيقه، ليس بسبب القيمة الاقتصادية لهذه المنتجات، ولكن أساسا بسبب قيمتها الاستراتيجية والأمنية الفائقة، ولأن الرئيس ترامب قرر التصدي للصعود الصيني بطريقته.
عند هذه النقطة أصبح الأمر مزعجا جدا بالنسبة للصين، وبعد أن تمسك الصينيون بهدوء الأعصاب في مواجهة الرسوم الأمريكية المتزايدة على صادرات الصين من السلع التقليدية للسوق الأمريكية، تغيرت لهجة الخطاب الصيني بعد أن استهدف الأمريكيون قطاع التكنولوجيا الصينية المتقدمة، واستدعت آلة الإعلام الصينية خبرات الاستعمار الذي فرض التخلف على بلادهم، وتحدث الرئيس الصيني عن مسيرة طويلة جديدة، وروج الصينيون لفيديوهات الاستعراضات العسكرية الصينية المبهرة. لقد تجاوزت العلاقات بين الصين والولايات المتحدة مرحلة الحرب التجارية، فالاستعراضات العسكرية ليست هي الأداة المناسبة لشن الحروب التجارية.
الفشل هو الوصف المناسب لسياسة الرؤساء الأمريكيين السابقين تجاه الصين، فقد وصلت الصين إلى ما وصلت إليه من مكانة عظمى، وأصبحت قادرة على تهديد مكانة الولايات المتحدة على قمة النظام الدولي، تحت نظر رؤساء أمريكيين متعاقبين لم يقم أي منهم بأي مبادرة لتغيير هذا المسار. ربما كان من الممكن إبطاء الصين الصاعدة وترويضها لو تم تطبيق السياسات المناسبة في مرحلة مبكرة، لكن محاولة القيام بهذا الآن، بعد أن أصبحت الصين قوة عظمى حقيقية، وليس مجرد قوة اقتصادية ناشئة، هو أمر ينطوي على مخاطر جدية أتمنى لو أن الرئيس ترامب وفريقه يدركون أبعادها.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع