حكمى على ثور يوليو ١٩٥٢ ليس موضوعيا، لكننى سوف أسعى فى السطور القادمة أن ألتزام أقصى قواعد الموضوعية قدر الإمكان.. وهى موضوعية سوف تجعل كثيرين من الدراويش فى الاتجاهات المختلفة يصبّون جام غضبهم على العبد الفقير إلى الله.
لماذا حكمى ليس موضوعيا؟!. لأننى آمنت بثورة يوليو، وانتسبت لمعظم الفاعليات والمنظمات والأحزاب الناصرية منذ بداية الثمانينيات. كنت عضوا فاعلا فى نادى الفكر الناصرى بجامعة القاهرة من عام ١٩٨٢ إلى عام ١٩٨٦. وكنت عضوا مؤسسا فى معظم الأحزاب والجماعات الناصرية التى ظهرت طوال حقبتى الثمانينيات والتسعينيات، وكنت عضوا مؤسسا فى معظم الصحف الناصرية التى صدرت فى تلك الفترة، من «صوت العرب» و«الموقف العربى» نهاية بجريدة «العربى»، مرورا بالعمل مراسلا فى مكاتب عشرات الصحف الناصرية فى المنطقة العربية، خصوصا تلك التى كانت تصدر فى لبنان، أو من عواصم أوروبية.
فى تلك الفترة كنت أتبنى المقولات الناصرية الكلاسيكية بطريقة نصية لا تقبل أى اجتهاد أو مناقشة، لكن ومع القراءة الأعمق وما انتهت إليه التجربة، وكذلك التجارب المماثلة فى المنطقة والعالم، اكتشفت أن هناك أخطاء وقعت فيها الثورة، وتسببت فى كوارث لا حصر لها، كان يمكن تفاديها، وأن التدخل الأجنبى لم يكن السبب الوحيد لهذه النهاية المؤسفة.
مازلت مؤمنا حتى هذه اللحظة بالدور المحورى الذى لعبته الثورة فى تحرير مصر من الاستعمار البريطانى والتصدى للعدوان الثلاثى، ولا أفهم حتى الآن كيف يمكن لمنصف أو عاقل أن يهاجم الثورة لأنها طردت هذا الاستعمار؟.
ومازلت مؤمنا بالدور المهم الذى لعبته الثورة فى دعم تحرير واستقلال غالبية البلدان العربية والإفريقية من الاستعمار الغربى.
ومازلت مؤمنا بالدور المهم جدا الذى لعبته الثورة فى تعميق انتماء مصر العربى والإفريقى، ودورها فى حركة عدم الانحياز والتصدى للأحلاف الأجنبية. إضافة إلى دورها المحورى فى التصدى لإسرائيل.
ومازلت مؤمنا بالدور الاجتماعى المهم الذى لعبته الثورة فى إعادة توزيع الثروة، وإتاحة التعليم والصحة بالمجان للجميع، وهو الإجراء الذى حول الثورة من انقلاب أو حركة مباركة إلى ثورة شاملة.
لكن فى المقابل ــ وآهٍ من كلمة لكن ــ فإن الأخطاء التى وقعت فيها ثورة يوليو كانت مفجعة، وأدت إلى انتكاسات وتراجعات، نعانى من بعضها حتى الآن.
الخطأ الأكبر الذى وقعت فيه الثورة، هو الحكم الفردى المطلق، وغياب الديمقراطية، وهو خطأ قاد بدوره إلى مجموعات متتالية من الأخطاء.
أتفهم تماما قرار الثورة بحل الأحزاب بعد ستة أشهر من قيامها فى يناير ١٩٥٣، بل وأتفهم العديد من الإجراءات الاستثنائية التى اتخذتها فى الشهور والسنوات الأولى، لمحاربة أعدائها فى الداخل والخارج، وبعضهم ـــ فى الداخل ــ كان يتآمر علنًا ليس على الثورة فقط ولكن على البلد بأكمله.
كان منطقيا أن يحدث ذلك، لفترة محددة، وبعدها تعود الحياة إلى طبيعتها، لكن ما هو استثنائى تحول إلى دائم.
حينما أتحدث عن الديمقراطية فليس شرطا أن تكون على غرار الطريقة الأوروبية. ولكن أى نوع من أنواع الحكم الذى يسمح بالمشاركة لأكبر عدد من قوى المجتمع، ويسمح بالمحاسبة والشفافية، التى تقضى أولا بأول على أى أمراض بسيطة قبل أن تتحول إلى سرطانات خبيثة. ولدينا مثال عبقرى على التعددية داخل الحزب الشيوعى الصينى والتى سمحت لهذا البلد بأن يصبح أكبر قوة اقتصادية فى العالم تقريبا.
غياب المشاركة والمحاسبة، والسماح بأن يلعب الجيش دورا سياسيا، وأن يكون هناك انقسام فى قمة السلطة، والتفاف بعض الفاسدين والمنافقين والفشلة حول الحكم، والتورط في مغامرات خارجية غير مدروسة، هو الذى قاد إلى هزيمة يونيو ١٩٦٧.
صعدنا إلى السماء مع ثورة يوليو فى أغنية «صورة» للمطرب الكبير عبدالحليم حافظ، وهبطنا إلى سابع أرض مع نفس المطرب فى أغنية «عدى النهار».
القراءة فى ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢ فى منتهى الأهمية. علينا ان نتوقف عن النقاش والتفكير بمنطق الأولتراس أو الأهلى والزمالك أو الأبيض والأسود، أو أيهما أفضل عبدالناصر أم السادات؟!!. علينا أن نركز على ما هو الأفضل للمستقبل، وما هى الأخطاء التى ينبغى ألا نكررها. علينا أن نعيد قراءة محاضر اجتماعات مجلس الوزراء بعد هزيمة ١٩٦٧، ومغزى كلام جمال عبدالناصر حينما قال: «والله لو أن الشعب خرج ليضربنا بالجزم بسبب الهزيمة فلن نلومه»!.