بقلم - عمر طاهر
بخصوص سؤالك عن ضعف سمعة «التقفيل المصرى»، والشكوى المستمرة عندنا من الصنايعية، عام 1517 قرر السلطان «سليم الأول» نقل العمال المهرة فى مختلف التخصصات إلى «اسطنبول» عاصمة الدولة العثمانية، واختار كل «الشطار» الذين كانت مصر تبرق بـ«شغل إيديهم»، كان قرارا قاسيا بعقوبات مؤلمة لم يقو أحد على الفرار منه، كان سليم الأول قد جعل لكل حرفى ضامنا مسؤولا عنه، وتتم معاقبة الضامن إذا «خلع» الحرفى، فتورط الشعب فى تسليم بعضه البعض لمركز التجمع فى ميناء الإسكندرية.
وحسب كتاب حلمى النمنم «أيام سليم الأول فى مصر» كان عدد العمال وقتها 1800، وفى رواية أخرى أضعاف هذا الرقم تم تحميلهم على مركبين، وكانت ذروة القصة أن غرقت مركب تحمل معظمهم ومات كل من عليها، وبعد عام وصلت إلى القاهرة أخبار المركب الآخر عبر خطابات حملها شخص عثمانى إلى القاهرة، وكانت هذه الخطابات تنقل اللوعة والأسى وأخبار من ماتوا هناك.
انتهى كلام كتاب التاريخ، وتبدأ الآن فقرة «الفتى»، أعتقد أنه بعد كل ما حدث لجأ الصنايعية المصريون إلى تخبئة مهارتهم، خوفا من أن تقتلهم كما قتلت من سبقوهم، اضطر الصنايعى المصرى إلى وضع لمسة على عمله تقول إنه لا يستحق شرف السفر إلى اسطنبول، وكانت رداءة التقفيل سببا كافيا لاتقاء شر سليم الأول، حيلة دفاعية قد تكون أفسدت المهنة لكنها أنقذت حياة كثيرين.
ستقول لى إن هذا الكلام مرت عليه قرون طويلة ولا معنى لاستمراره، دعنى «أفتى» من جديد وأقول لك إن تفصيلة وضع لمسة تنفى المهارة تحولت بالوقت إلى تفصيلة فى «جينات» الصنايعى، لم تعد اختيارا، أصبحت خاضعة لقوانين التطور والوراثة، عندك مثلا الزرافة، عندما جفت الحشائش فى الأرض لم يكن هناك مصدر للطعام سوى ورق الأشجار، وبالوقت طالت رقبة الزرافة حتى تطول هذا الطعام، ثم انتهى الجفاف وعادت الحشائش، ولكن رقبة الزرافة لم تعد كما كانت، كذلك اختفى سليم الأول لكن مهارة العمال لم تعد كما كانت.
أحد المستشرقين أعد كتابا عن «الطوائف والحرف المصرية فى القرن 18»، اندهش من ضعف المهارة فى المهن الصريحة مثل «النجارة» مقارنة بمهارة هائلة فى مهن «متدارية» مثل «الأرابيسك»، وعندنا حاليا قد يبدى الصنايعى دهشته إذا ما خرجت صنعته بدون خطأ واحد وقد يصارحك كزبون بأن «قرفتك حلوة» وأنه لم يكن يقصد هذه الجودة، ويجتهد فى البحث عن تفسيرات من نوعية «انت ابن حلال»، ويؤكد أحيانا أنه «والله ما أعرف أعملها تانى».
تسألنى وكيف تمضى الحياة بهذا الشكل؟ إذا وجدت صنايعى مهارته تقترب من الـ70% فأنت أمام أحد هؤلاء المهرة الذين ابتلعهم البحر، وكل ما يحتاجه لتعويض الـ30% الناقصة هو الشعور بالأمان، يرى الحرفى فى كل زبون «سليم أول»، ولا أحد فينا يدخر جهدا ليظهر كمستبد، فيلجأ الحرفى دفاعا عن نفسه إلى «العك» وضرب المواعيد و«الطلسقة»، ليس فى الأمر إهانة لك كزبون لكنها حيل دفاعية نفسية موجودة بداخله تخضع لقوانين الوراثة. لابد أن يتمرن الواحد على طولة البال والتفهم وتقدير هذا الخوف ومنح الحرفى صلاحيات «المعلمة» واستبدال «شغل وحش زى وشك» بـ«تسلم إيدك بس فيه أحسن بكتير».
رقبة الزرافة العالية تنحنى بمرونة عالية لمن يقدم لها «جزرة» وعلى وجهه ابتسامة.
محبتى.. عمر
نقلا عن المصري اليوم القاهرية