عندما أصاب اليأس مُنظرى تيار الإسلام السياسى ومفكريه وقادته من الهجوم على العلمانية لإقناع أتباعهم بأضرارها الجسيمة على مجتمعاتنا، فالعلمانية كل يوم ترد عليهم بمنجز حضارى يخرسهم ويلجمهم ويجعل الفجوة تتسع بين تقدم مجتمعاتها وتخلف مجتمعاتنا، كان الحل السحرى عند هؤلاء المنظرين الإسلاميين هو القفز على كل المقارنات وسد كل منافذ التبرير وثغرات الانبهار، والقول بداية، ولغلق باب الجدل، بأن العلمانية نبت غربى وبذرة مسيحية لا ينفع زرعها فى تربتنا الإسلامية، حتى لو كانت جيدة فهى جيدة لهم وليست لنا، وأطلق د.محمد عمارة مصطلح العلمانية الصليبية وعلمانية المدفع والإنجيل... الخ، ورفع هو وغيره مصطلح الخصوصية الثقافية الدينية التى صارت حقنة المخدر التى نبتلع بعدها كل هزائمنا وانكساراتنا وتقهقرنا الحضارى، أصبحت كلمة خصوصيتنا ثقب السفينة الذى يتسرب منه الماء لنغرق جميعاً ودون قارب نجاة، إنها فعلاً كلمة الحق التى يراد بها الباطل والتى بدلاً من أن تكون قاطرة دفع للأمام مثلما حدث مع اليابان التى لم تفهمها على أنها عزل شرنقة ولكنها انصهار بوتقة، بدلاً من ذلك صارت الخصوصية مطرقة تدق على رؤوسنا لتدفنها فى الرمال، كلمة الخصوص سرقها اللصوص لتزييف وعينا وعدم دمجنا فى نادى الحضارة.
بالطبع بداية لعبة رجل الدين مع المواطن المسلم هى أن العلمانية نشأت ضد ثقافة مسيحية سيطرت فيها الكنيسة، لكننا نحن حاشا لله فى مجتمعاتنا الإسلامية، لا توجد مثل تلك السيطرة، لا يوجد الكهنوت... إلى آخر تلك الإقناعات التى ليست قناعات، لأن من يقول لك هذا الكلام ويصف لك ذلك الفردوس الأرضى يحارب من أجل سيطرة المؤسسة الدينية الإسلامية وتوغلها وتغولها، ويعرف جيداً أن التاريخ والواقع والممارسة نفت كل تلك المانشيتات والكليشيهات، وخلقت طبقة جديدة من فقهاء السلطان وأصحاب صكوك الغفران الإسلامية ومكفرى علماء الفيزياء والكيمياء.
هناك جانب حقيقى فى كلامهم عن أن جوهر الإسلام عدم وجود وساطة أو وسيط، وهذا كان من المفروض أن يمنحنا فرصة فى أن يحتضن رحمنا جنين العلمانية، لكن المنظومة الفقهية ومدونة الفتاوى وتسلط رجال الدين وشهوة التسلط ومأسسة الإسلام، كل هذا أضاع تلك الفرصة عن عمد وصنع كهنوتاً إسلامياً موازياً، صنعنا مشنقتنا بأنفسنا عن طيب خاطر، ووضعنا رؤوسنا تحت المقصلة عن عمد، وللأسف جاءت قراءتنا التاريخية المبتسرة المشوهة وتقييمنا الأخلاقى للحكام ورجال السياسة من خلال صراعنا الدينى المذهبى، ليضع القادة الذين حققوا مكاسب علمانية فى خانة الكراهية، ويمجد قادة وخلفاء وحكام آخرين من الممكن أن نكون قد خسرنا الكثير سياسياً معهم ولكن حكمنا الأخلاقى وهوانا الدينى كان هو المعيار والفيصل والترمومتر، حدث هذا فى صراع على ومعاوية، أنا شخصياً وقعت فى هذا الفخ ولم أستطع أن أقيم علاقة إعجاب بمعاوية ومثلى الكثيرون، فما فعله على مستوى الدهاء والمكر والتحريض السياسى على بعض الصحابة يجعل هناك حاجزاً نفسياً ما بيننا وبينه، على عكس إمام المتقين الذى عشقته وعشقناه ووقعنا فى هواه وأسرتنا بلاغته ولا نستطيع فكاكاً من مقارنته الأخلاقية بخصمه.
لكن، منذ متى كانت السياسة توزن بميزان أخلاقى أو تقاس بمعيار الورع الدينى؟
إن النظر بموضوعية وإنصاف للمكاسب السياسية وإدارة الدولة فى عهد معاوية يجعلنا نطرح سؤالاً مهماً: «هل كانت الدولة فى ذلك الوقت ستنهض بورع الإمام أم بدهاء السياسى؟».
أترك لكم الإجابة كجزء من تمرين عقلى وفكرى من الممكن أن يعيد حرث تربة التاريخ التى جرفها الهوى وصحرها الانحياز، وقس على هذا باقى فصول التاريخ الإسلامى، فزاوية رؤيتنا وقراءتنا للحدث تنطلق دائماً من منطلق قياس درجة الإيمان داخل هذا الحدث أو السلوك أو القول، فأنا على سبيل المثال أقرأ حادثة عبدالملك بن مروان التى يحكيها «تاريخ الخلفاء» للسيوطى قراءة مختلفة، كتاب السيوطى يقول «إنه لما أفضى أمر الخلافة إلى عبدالملك بن مروان كان المصحف فى حجره فأطبقه وقال: هذا آخر العهد بك»، قرأناها ونحن ندين عبدالملك كيف يترك القرآن ويغلقه ويجنبه ويتجرأ ويتجاسر ويعلنها صراحة أن هذا هو آخر عهده بالقرآن!
القراءة المنصفة المحايدة المغايرة من زاوية مدنية وليست دينية، وانطلاقاً من شخصية عبدالملك نفسه قبل توليه الخلافة التى تنفى عنه عدم الإيمان فقد كان يقترب من شخصية الناسك المتبتل العابد كما هو مذكور فى كتب التاريخ، إذن القراءة لا بد أن تكون فى إطار فصل الدين عن الدولة، والاستجابة لقراءة متغيرات الشارع ومتطلبات دولاب الدولة التى هى خارج سياق النص المقدس الذى ليس من دوره أن يسيرها ويعتنى بها وهو كتاب هداية وإرشاد بخطوط عامة وليس مدونة قانون بتفاصيل خاصة، هذا كان مجرد مثال كنت دائماً أفكر فيه كدلالة على قراءتنا المغرضة للتاريخ، يشترك معى فى نفس الرؤية المفكر حسين أحمد أمين الذى كان مهموماً حتى النخاع بالتاريخ الإسلامى، ينبه فى كتابه «حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية» إلى اضطرار المؤرخين إلى تبنى موقف من أحداث الماضى شبيه بموقف الفقهاء منها و«أضحى الهدف من الكتابات التاريخية هو الهدف الذى حدده الفقهاء للمؤرخين، ألا وهو أن يكون علم التاريخ وأدب التراجم وسيلة من وسائل غرس القيم الدينية، والمبادئ الأخلاقية الرفيعة، والمثل العليا، لا تسجيل الحقائق بأكبر قدر مستطاع من الموضوعية بعد تمحيص ما تجمع منها لدى المؤرخ».
هذه النظرة الرومانسية للتاريخ وأبطال الماضى التى وضعها حسين أمين فى الكادر، جعلت الحقيقة التاريخية لا تعنينا كثيراً لأن التاريخ فى خدمة تعزيز الإيمان وبغرض الوعظ والهداية، وكانت الحصيلة والثمرة كما يقول حسين أمين فى نفس الكتاب «بات المسلمون ينظرون إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز على أنه من أعظم خلفاء الإسلام، لمجرد ورعه وتقواه، وموقفه العادل من العلويين وبنى هاشم، فى حين لم تجلب السياسة المالية والإدارية لهذا الخليفة غير خراب الدولة»، ويضرب مثلاً شهيراً نهلل له فيقول «لا يزال المسلمون إلى يومنا هذا يمصمصون شفاههم إعجاباً بموقفه من واليه على حمص الذى كتب إليه إن مدينة حمص قد تهدم حصنها فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له فى إصلاحه، فرد عليه عمر بن عبدالعزيز بقوله (أما بعد، فحصنها بالعدل. والسلام)»!!!
وأنا أضع علامات تعجب متعمداً لأنه لو قرأنا الأمر بعين الحاضر وفى ظل المجتمعات الديمقراطية سيزول انبهارنا بتلك الجملة البليغة التى لا بد أن يكون أبسط رد عليها استجواباً فى البرلمان.
ستظل نظرتنا الأحادية التى تطل من شرفة الانحياز الدينى توقعنا فى حيرة وتصيبنا بالاستجماتيزم التاريخى الذى يقرأ الصورة معوجة ومكسورة وغير واضحة، هل ننظر إلى يزيد بن معاوية كإدارى متميز أم كمحارب للحسين؟، وهل الحساب السياسى للحسين هو حساب مع شخص خارج عن نظام الدولة أم هو حساب لحفيد النبى وسيد شباب أهل الجنة؟، وهل سيظل الحجاج بن يوسف الثقفى فى ذاكرتنا هو مجرد صوت غليظ يهدد بقطف الرؤوس التى أينعت، أم هو الحجاج بانى الجسور وصهاريج تخزين المياه وحافر الآبار وصاحب مشروع تنقيط المصحف والنهضة الزراعية فى العراق؟، وهل حرب الحجاج على المارقين على نظام الدولة مختلفة عن حروب أبى بكر الصديق التى أطلق عليها اسم «حروب الردة»؟، ولماذا نقرأ هذه بعين مختلفة عن تلك؟
أسئلة كثيرة إجاباتها تعتمد على زاوية الرؤية، هل هى زاوية علمانية أم زاوية دينية؟، وهل أنت كقارئ تاريخ مهمتك تحديد من سيدخل من أبطال الكتاب الجنة أم من أصلح الاقتصاد وأقر الأمن؟
وما زال السؤال قائماً: «هل كانت هناك بذور جنينية فى الإسلام للعلمانية؟».
نقلًا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع