بقلم: خالد منتصر
شنَّ د. أحمد عمر هاشم، عضو هيئة كبار العلماء ورئيس جامعة الأزهر الأسبق، هجوماً كاسحاً على كل مَن ينكر حديثاً فى «البخارى» أو «مسلم»، ووصفهم بأنهم إما أعداء الإسلام أو جهلاء، وقال: على مسئوليتى لا يوجد حديث ضعيف فى «البخارى»، وختمها بتأكيده على أن مَن ينكر ذلك فسيتبوَّأ مقعده من النار!!، أحكام جاهزة نهائية غير قابلة للنقض أصدرها د. هاشم بكل ثقة، وكأنها منزَّلة أو كأنها وحى سماوى، هذا اليقين الذى يتحدث به معظم مَن تلجأ إليهم الدولة للتجديد لا يمكن أن يُحقق تجديداً، بل كما نرى كل يوم، يقين هؤلاء يُحدث تبديداً لا تجديداً، لدرجة أن شباباً كثيرين نراهم يهجرون الدين برمَّته نتيجة الجمود الفقهى، واعتبار الحفاظ على شخص «البخارى» أهم من الحفاظ على الدين نفسه، قلنا ونكرر إن الجهد الذى قام به أى مجتهد أو فقيه، ومنهم «البخارى»، هو جهد بشرى مقدَّر ومشكور ومحترم، ولكنه ليس مقدساً لا يمس، بل قابل للنقد والتخطئة، وإلا لكنا كمن يصنع آلهة بشرية وأصناماً من لحم ودم، أما بالنسبة لحديثَى الذبابة والسحر اللذين دافع عن صحتهما د. عمر هاشم، وقال عن الأول إنه إعجاز علمى، ووضع ثغرة للهروب لم تذكر فى الحديث، وهو أنه للمضطر، ووصف الثانى بأنه صحيح، وأيضاً وضع ثغرة للتبرير، وهى أن السحر فى البدن، برغم أن الحديث واضح «يخيَّل إليه أنه يفعل الشىء وما يفعله..»، المهم أن د. هاشم وهو يهاجم وينتقد مَن هاجم وانتقد الحديثين لم يتذكر أن الشيخ محمد عبده، وتلميذه رشيد رضا، والشيخ محمد الغزالى قد انتقدوا هذين الحديثين وغيرهما من «البخارى ومسلم»، بل وكانت الانتقادات عنيفة ومفحمة، والأهم أن رد الفعل على كلامهم لم يكن بمثل الحدة التى يواجه بها دعاة تلك الأيام مَن يتلفظ بواحد على عشرة مما قاله هؤلاء الشيوخ، وسنوجز ردودنا على كلام الشيخ الجليل د. أحمد عمر هاشم فى نقاط سريعة:
• بداية.. حل افتعال ثغرات عندما نجد الحديث متعارضاً مع علوم العصر الحديث، هو حل عاجز ومضر بالدين نفسه، والحل الأمثل المنطقى هو أن نقول إن هذا الكلام ابن زمانه ومكانه وبيئته، بدلاً من هذا التخبط، واختراع المبررات التى يفتح حنفيتها فقط رجل الدين، ولا نعرف من أين أتى بها.
• يقول د. عمر هاشم، كعادة كل أصحاب نظريات الإعجاز العلمى، إن عالماً ألمانياً (ولازم يكون ألمانى) اكتشف الإعجاز والمضاد الحيوى فى جناح الذبابة!!، بحثت عن هذا العالم الألمانى الذى يستشهد به الإعجازيون، فوجدت أنهم يذكرون الأستاذ بريفليد الذى لم أجده إلا فى مواقع الإعجاز العلمى التى يقودها د. زغلول النجار، وللأسف، وجدت كلاماً مبهماً عنه، مثل أنه كان أستاذاً فى جامعة «هال» الألمانية منذ مائة وأربعين سنة!!، ووجدت أن اكتشافه الأثرى الذى يعود إلى عصر ما قبل اكتشاف البنسيلين، بل قبل اكتشاف الطب الحديث نفسه!! لا علاقة له بالحديث النبوى الموجود فى البخارى، فالمدافعون يقولون -والعهدة على الراوى- إن الأستاذ بريفليد قال إن الذبابة المنزلية مصابة بطفيلى من جنس الفطريات، ويقضى هذا الفطر حياته فى الطبقة الدهنية داخل بطن الذبابة، ما علاقة هذا بذاك؟!.
• أهمس فى أذن شيخنا الجليل ببعض الأمراض التى ينقلها الذباب، لعله يغيِّر رأيه فى العلماء الألمان الذين يستعين بهم، فالذبابة تحمل أكثر من 100 مرض، فهى تنقل الرمد الصديدى، والكوليرا، والتيفود، والباراتيفود، وإسهال الأطفال، والدوسنتاريا بنوعيها الباسلية والأميبية، والتسمم الغذائى، والدرن، والأنثراكس عن طريق برازها وقيئها وأرجلها وأجنحتها!.
• فى العشرينيات من القرن الماضى تصدَّى العلامة السيد محمد رشيد رضا، تلميذ الشيخ محمد عبده، فى مجلته «المنار» بشجاعة لتفنيد حديث الذبابة، بعد أن جعل الدكتور محمد توفيق صدقى يفنده من الناحية العلمية، ويصفه بأنه مخالف للواقع، ولا يصح رفعه للرسول، بالطبع تم تكفير الدكتور صدقى، فتصدى الشيخ رشيد رضا للمكفراتية فى المنار -الجزء الأول، المجلد 29- قائلاً تحت عنوان «تفصيل الكلام فى حديث الذباب»: «الحديث غريب عن الرأى والتشريع جميعاً، فمن قواعد الشرع أن كل ضار قطعاً فهو محرم قطعاً، وكل ضار ظناً فهو مكروه، فغمس الذباب لا يتفق مع قاعدة تحريم الضار، ولا مع قاعدة اجتناب النجاسة، هذا وإننا لم نرَ أحداً من المسلمين ولم نقرأ عنهم العمل بهذا الحديث!، إن الذى كفَّر الدكتور محمد توفيق صدقى لاعتقاده أن حديث الذباب مخالف للواقع ولا يصح رفعه إلى الرسول الأعظم، جاهل!!»، ويضيف الشيخ رشيد رضا، دفاعاً عن الدكتور صدقى، قائلاً: «لم يطعن المسلم الغيور فى صحة هذا الحديث إلا لعلمه بأن تصحيحه من المطاعن التى تنفر الناس من الإسلام، وتكون سبباً لردة بعض ضعفاء الإيمان.. وما كلف الله مسلماً أن يقرأ صحيح البخارى ويؤمن بكل ما فيه!!، وما من مذهب من المذاهب المقلدة إلا وأهله يتركون العمل ببعض ما صح عند البخارى لعلل اجتهادية». ذكر الشيخ رشيد رضا تأييداً لكلامه حديث رفع اليدين عند الركوع والقيام منه المذكور فى البخارى، والذى أنكره الإمام أبوحنيفة، وتساءل عمن يفعله هل يريد أن يطير فيرفع يديه؟!، والسؤال لكل المدافعين عن حديث الذبابة والمكفِّرين لمن ينكر أى حديث فى البخارى، هل ستكفرون الإمام «أبوحنيفة»، لأنه تجرأ وأنكر وخالف مائتى حديث فى الصحيحين؟!.
• وينتقد الشيخ الغزالى نفس الحديث فى كتابه «قذائف الحق»، وفى نهاية نقده يقول بلهجة ساخرة: «هب أن رجلاً قال: لا أستطيع قبول رواية «إذا وقع الذباب فى شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن فى أحد جناحَيه داء والأخرى شفاء» أيكون من الكافرين؟ كلا!! فلم يقل أحد إن أركان الإسلام تضم الإيمان بالله واليوم الآخر وغمس الذباب فى الشراب إذا سقط فيه!».
• رفض الشيخ الإمام محمد عبده حديث سحر الرسول، وقال: «لا يخفى أن تأثير السحر فى نفسه يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئاً، وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض فى الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان فى بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدق قول المشركين فيه (إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً) وليس المسحور عندهم إلا مَن خولط فى عقله، وخُيل له أن شيئاً يقع وهو ما لا يقع، فيُخيل إليه أنه يوحَى إليه ولا يوحَى إليه»، ثم يواصل الإمام محمد عبده وجهة نظره قائلاً: «وأما الحديث فعلى فرض صحته هو آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد، وعصمة النبى من تأثير السحر فى عقله، عقيدة من العقائد، لا يؤخذ فيها بالظن المظنون».
• يقول الغزالى فى كتابه «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث»، وهو الذى هوجِم بسببه وتم تكفيره هو الآخر من بعض السلفيين، يقول: «وهناك قضايا لا يجوز فيها التساهل لخطورتها، وقد شعرت بالغيظ والحرج وأنا أقرأ أن يهودياً وَغْداً سحر النبى صلى الله عليه وسلم، وأعجزه عن مباشرة نسائه مدة قدرها ابن حجر بستة أشهر! أكذلك تُنال القمم؟!».
وأخيراً سؤال إلى الشيخ الفاضل د. أحمد عمر هاشم: هل الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا وتلميذ تلميذه محمد الغزالى سيتهمهم بإنكار «البخارى» ويتوقع لهم مقاعد النار؟!.