بقلم: خالد منتصر
هستيريا البحث المصرى المحموم عن فيديو الدقيقة ونصف التى ترقص فيه برازيلية فى كوافير أو مركز تجميل، ذكّرنى برقصة الكاريوكا البرازيلية الشهيرة التى منحت الراقصة المصرية الأسطورية تحية كاريوكا لقبها الذى اشتهرت به، الاثنتان ارتبطتا بالبرازيل، الأولى بحكم الجنسية والثانية بحكم أن خطوات رقصها اقتربت من روح أشهر رقصات ذلك البلد الذى من كثرة عدد ما اخترعه من رقصات يظن الناس أن شعبه، شعب البرازيل، يشرب ويأكل ويعمل وهو يرقص!!، هذا الفيديو ذكرنى بكاتب مختلف من زمن مختلف، وضع الرقص الشرقى، وظاهرة تحية كاريوكا بالذات على طاولة التشريح الأدبى والاجتماعى، الكاتب هو إدوارد سعيد، الباحث الفلسطينى الأمريكى الشهير، ولضيق المساحة سأقتبس من مقاله «تحية إلى تحية» تلك العبارات:
«لا تنتمى تحية إلى ثقافة الفتيات الرخيصات أو النساء الساقطات التى يَسهلُ تعريفها، بل إلى عالم النساء التقدميّات اللواتى يتفادين الحواجز الاجتماعيّة أو يُزلنها. فقد ظلّت تحيّة مرتبطة بمجتمع بلادها ذلك الارتباط العضوى، نظراً لما اكتشفته لنفسها كراقصة ومحيية للحفلات من دور آخر أكثر أهميّة. إنّه دور العالمة الذى كاد يُنسى والذى تحدّث عنه زوار الشرق الأوروبيّون فى القرن التاسع عشر، مثل إدوارد لين وفلوبير. فقد كانت العالمة محظيّة من المحظيات، إنّما امرأة ذات مآثر بارزة. ولم يكن الرقص سوى واحدة من مواهبها الكثيرة: كالقدرة على الغناء وتلاوة القصائد، وطلاوة الحديث، وسعى رجال القانون والسياسة والأدب إلى رفقتها».
وكتب عنها بعد أن شاهدها فى صالة بديعة ترقص على أنغام أغنية عبدالعزيز محمود: «تواصلت الأغنية خمسين دقيقة على الأقل قبل أن تظهر تحيّة فجأةً على بعد بضع أقدام خلف كرسى المطرب. كنّا جالسين فى أبعد الأماكن عن المنصّة، لكن البدلة الزرقاء الوامضة المتلألئة التى كانت ترتديها خطفت أبصارنا، فيا لذلك اللمعان فى التّرتِر، ويا لوقفتها الهادئة المضبوطة وهى تقفُ هناك واثقة تماماً. إن جوهر فن الرقص العربى التقليدى، شأن مصارعة الثيران، ليس فى كثرة حركات الراقصة وإنّما فى قلّتها: وحدهن المبتدئات، أو المُقلّدات البائسات من يونانيّات وأمريكيّات، من يُواصلن الهزهزة والنطنطة الفظيعة هنا وهنا ما يُحسب إثارة وإغراءً حريمياً. فالهدف يتمثّل فى إحداث أثر عن طريق الإيحاء أساساً (إنما ليس حصراً على الإطلاق)، وذلك عبر سلسلة من الحوادث المُترابطة معاً بصيغٍ مُتعاقبة، أو موتيفات متكرّرة، على ذلك النحو من التوليف الكامل الذى قدّمته تحيّة فى تلك الليلة. فموتيف تحيّة الأساسى، بالنسبة لـ(منديل الحلو)، هو علاقتها بعبدالعزيز محمود الذى كان غافلاً عنها إلى حدٍّ بعيد. فكانت تنزلق من ورائه، فيما هو يدندن برتابة، فتبدو كما لو أنّها ستقع بين يديه، مُقلّدة إياه وهازئة منه، كل ذلك من غير أن تلمسه ألبتّة أو تستثير ردّة فعله».
ثم يصفها بقوله: «ما تُخلّفه من شعورٍ بجسدٍ مُذهل فى لدانته وحُسنه يتماوج من خلف عدّة معقدة من الزينة المؤلفة من الشرائط، والأحجية والعقود، وسلاسل الذهب والفضّة، التى تبعث حركاتُ تحيّة فيها الحياة على نحوٍ مُتعمّد وعلى نحوٍ مُفترض فى بعض الأحيان. وإذ تفعل كل هذا، فإنّها ترنو إلى هذه الأجزاء المتحركة وتُثبّت نظراتنا المُحدّقة إليها نحن أيضاً، كأنّنا جميعا إزاء مسرحيّة صغيرة مستقلة، مضبوط الإيقاع كلّ الضبط، نُعيد فيها تكوين جسدها على النحو الذى يسلّط الضوء على جانبها الأيمن الذى يبدو كأنّه قد انفصل عن بقية جسدها. كان رقص تحيّة أشبه بأرابيسك متطاول تُحكم صنعه من حول شريكها الجالس. لم تهزهز نهديها، أو تتقدّم من أحد لتدفعه أو تحتكّ به. كان ثمّة تروٍّ مهيب فى كلّ شىء بما فى ذلك المقاطع السريعة. وعَلِمَ كلّ منّا أنه يعيش تجربة إيروسيّة هائلة الإثارة، نظراً لإرجائها الذى لا ينتهى، تجربة ما كان لنا أن نحلم بأن نصادف مثلها أبداً فى حياتنا الواقعيّة»، ويواصل الوصف قائلاً: «أما تحيّة فلا، فرشاقتها وأناقتها توحيان بما هو كلاسيكى تماماً بل ومهيب. والمفارقة أنّها كانت ملموسة وقريبة كما كانت نائية، لا تُطال، ولا تُنال فى آنٍ معاً. وفى عالم الكبت الشديد الذى كنّا نعيشه كانت تلكم الصفات تعزّز الانطباع الذى خلّفته «تحيّة». وأذكر على وجه الخصوص أنّها ما إن بدأت ترقص حتّى ارتسم على وجهها ما بدا وكأنه بسمة صغيرة مستغرقة فى ذاتها لازمتها طوال العرض، وكان فمها مفتوحاً أوسع مما تكون عليه البسمة فى العادة، كما لو أنّها مختلية بنفسها تتأمّل جسدها وتستمتع بحركاته. لقد طغت تلك البسمة على كلّ بهرجة مسرحيّة مُتكلّفة فى المشهد أو فى رقصها، فنقّتهما بما انطوت على من تركيز مفروض على أفكارها العميقة والشاردة. بل إنّنى ما من مرأة رأيتها ترقص فى الأفلام الخمسة والعشرين أو الثلاثين التى شاهدتها لها، إلا وكنتُ أعثر على تلك البسمة، مضيئة الخلفيّة التى عادة ما تكون سخيفة مُتكلّفة. بسمتها نقطةٌ ثابتةٌ فى عالمٍ قُلَّب».