بقلم: خالد منتصر
الأقسى من انتحار «نادر» طالب الهندسة من فوق البرج، تعليقات المصريين على هذه المأساة، تعليقات تدل على خلل فى الفهم والتناول، وقسوة وغلظة فى المشاعر، وتديين أى ظاهرة وإحالتها فوراً إلى ماكينة رجال الدين وفتاواهم، تعليقات من قبيل «مات كافر.. الشيطان وسوس له.. انتحر برغم أنه كان بيصلى.. إلخ»، هذا الاكتئاب الجسيم لن تعالجه صلاة أو صيام أو حج أو تناول أو تعميد أو حائط مبكى أو تقديم قرابين لبوذا، إنه مرض وخلل كيمياء وموصلات عصبية فى المخ، وقصة علمية كبيرة لها تفاصيل معقدة، إنه مسئولية طبيب نفسى وليس رجل دين، والمريض حينها يحتاج إلى دكتور لا واعظ، قرص دواء أو جلسات تنظيم إيقاع مخ وليس خطبة جمعة أو درس أحد، تكفير المنتحر أو عدم الصلاة عليه فى الكنيسة لا يمكن أن أصفها إلا بالقسوة فى التعامل مع هذا الغلبان المنتحر الذى لم يملك من أمر نفسه شيئاً، راقبوا قفزة «نادر» التى كلها إصرار على التخلص من هذا الوحش الرابض على الصدر، الخانق للروح، المدمر للكيان، راقبوها لكى تدركوا كم هو قاسٍ ذاك «الكلب الأسود» كما أطلق عليه «تشرشل» الذى كان مريض اكتئاب مزمن، مليون شخص ينتحرون كل عام على مستوى العالم، أى إن عدد المنتحرين فى العالم أكثر من ضحايا الحروب والقتل العمد، 3000 حالة انتحار يومياً، الانتحار هو السبب الأول للموت عند المراهقين والبالغين تحت الـ35، هناك شخص ما ينتحر فى مكان ما فى العالم كل 40 ثانية، الرجال ينتحرون بنسبة ثلاثة أضعاف المرأة، على عكس ما تتخيلون، هناك شخص يحاول الانتحار، ولم ينجح فيه كل ثلاث ثوانٍ!!، أرقام مُرعبة توضّح حجم المشكلة وخطورتها، لذلك أطلقت منظمة الصحة والجمعية العالمية لمكافحة الانتحار شعار connect، care، communicate لدعم المقبل على الانتحار، وكان لا بد فى مصر ألا ندفن رؤوسنا فى الرمال وندّعى أنه لا توجد لدينا مشكلة انتحار، لأننا كما نردّد دائماً شعب متدين بالفطرة، من الممكن أن تكون النسبة عندنا أقل، لكنها موجودة وتزداد، ولا بد أن نعرف أن الاكتئاب مرض فيه خلل كيميائى ولا علاقة له بنسبة التديّن أو مقدار ما تؤديه من طقوس، لذلك كان يجب على وزارة الصحة إنشاء خط ساخن يتحدث فيه المقبل على الانتحار عندما تهاجمه الهواجس، ليجد من يدعم بالنصيحة، ويعتنى ويتواصل، قال لى د. عكاشة عندما سألته عن هذا الموضوع إن انتحار مريض السكر بالامتناع عن الأنسولين يختلف عن انتحار المكتئب المريض، فالأول مستبصر وعارف ومدرك، والثانى غير مستبصر وغير مدرك وغير مقدر لعواقب الأمور، إنه على حد تعبير د. عكاشة مريض فاقد الأهلية، فكيف نحاسبه على هذا التصرف ونكفّره بدعوى أنه يائس من رحمة الله، والأرقام التى ذكرها لى د. عكاشة صادمة، فقد قال إن نسبة الانتحار فيما يسمى الاضطراب المزاجى ثنائى القطب من 15 إلى 20%، وقد نحت صلاح جاهين لهذا النوع من الاكتئاب لقباً خاصاً فأطلق عليه «البسط اكتئابى»، و70% من المنتحرين لديهم اكتئاب، وعدد ضحايا الانتحار أكثر من ضحايا الكوارث والزلازل والبراكين، يعنى ببساطة: بالعلاج الصحيح نستطيع أن ننقذ 70% من ضحايا الانتحار، من الأرقام الصادمة أيضاً أن 15% فقط من مرضى الاكتئاب هم الذين يأخذون العلاج المناسب، ومعظمهم يتعامل مع طبيب الباطنة العامة!.
المكتئب جعان تواصُل وعطشان اهتمام، يحتاج إلى من يسمعه، من يصرخ له، أشد الأمراض إيلاماً هو الاكتئاب، ألمه أشد وأعنف وأقسى من السرطان، والمنتحر يعرف أن المجتمع سيلفظه إذا انتحر ولن يحترمه، يعرف كل ذلك، لكنه بالرغم منه ينتحر، هو بتعبيره «ماعادش قادر يستمر، عايز يستريح ويريّح، حاسس بأنه بيتفرج عَ الدنيا، لامبالٍ بالحياة، ماعادش يفرق عنده حياة أو موت، ماعندوش الدافع.. إلخ»، كل هذه الكلمات لمبات حمراء نراها ولا ننتبه، وأجراس خطر نسمعها من المكتئب ولا نعيره اهتماماً، إلى أن تحدث الكارثة فنستيقظ على طلقة رصاص أو ابتلاع أقراص دواء أو قفزة إلى المجهول من نافذة، أو من على كوبرى إلى النيل مباشرة، ثم نُمصمص شفاهنا، قائلين «ده كان لسه إمبارح بيتعشى معانا»، أو «كان مكلمنى فى التليفون وكان بيضحك!!»، كلام فارغ نخلى به مسئوليتنا عن إهمال هذا البنى آدم وجعله يصرخ إلى الداخل وحيداً يعود إليه صدى صوته من بئر بلا قاع، الطبيب أيضاً عليه مسئولية، فمن يترك شاباً حاول الانتحار ليُعالجه بعدها فى البيت بشوية أقراص ويقول «دى حاجة بسيطة» دون أن يدخله المستشفى ويضعه تحت المراقبة، فهو يرتكب جريمة طبية، الانتحار مرتبط بالإنسان، كما قال صلاح جاهين، الذى للأسف انتحر وهو فى قمة مجده:
الدنيا أودة كبيرة للانتظار
فيها ابن آدم زيه زى الحمار
الهم واحد.. والملل مشترك
ومفيش حمار بيحاول الانتحار.