بقلم: خالد منتصر
عودة صوفيا لورين أيقونة إيطاليا ونبيذ السينما المعتق إلى الشاشة فى سن السادسة والثمانين، هى حدث يستحق الاحتفاء والبهجة، أطلت علينا صوفيا من خلال نافذة منصة «نتفيلكس» وببصمة ابنها المخرج إدواردو بونتى الذى كان قد أخرج لها أيضاً آخر أفلامها منذ عشر سنوات، أطلت علينا كالعطر الذى تفوح رائحته أكثر كلما تقادم الزمن، أطلَّت بفيلم «الحياة المقبلة»، فيلم بسيط، ليس فيه استعراض عضلات أو إثارة مغامرات أو توابل جنس، فيلم إنسانى نسجت خيوط الشجن فيه شخصيتان فقط، سيدة عجوز وطفل، مدام «روزا» اليهودية الهاربة من جحيم معتقل «أشفيتز» النازى، التى كانت عاهرة والآن ترعى أطفال بائعات الهوى فى بيتها المتواضع، والطفل «مومو» المسلم السنغالى الأصل (الممثل العبقرى إبراهيم جوى الذى أتوقع أن يقتحم العالمية خلال سنوات)، مومو ابن العاهرة التى قتلها زوجها لأنها رفضت الاستمرار فى بيع جسدها، بدأت العلاقة بسرقة مومو لحقيبة روزا وبها شمعدانان كانت ذاهبة لبيعهما لتسديد الإيجار، لكن د. كوين الطبيب النفسى الذى يرعى مومو بعد وفاة والدته يعيد إليها المسروقات، ويطلب منها ضم هذا الطفل فى بيتها إلى جانب الطفلين الآخرين ومراعاته، فهو طفل فى منتهى الذكاء.
تقبل على مضض حين يغريها الطبيب العجوز بـ٧٠٠ يورو شهرياً، تنمو العلاقة فى تلك المعزوفة السينمائية بنعومة وتصاعد ذكى وشجن مؤلم، روزا تكتشف أنها مقبلة على ألزهايمر، حين تبدأ فى النسيان الشديد لدرجة أنها تتوه منه بعد أن ضلت الطريق إلى حمام المطعم، بذكائه الفطرى يفهم ويحس مومو باقتراب الخطر من روزا التى تأخذ منه عهداً بألا يسمح لأحد بأن يأخذها إلى المستشفى حين تفقد صلتها بالعالم ويجرى عليها الأطباء التجارب، أخذت منه هذا الوعد فى قبو أسفل البيت.
كانت روزا تلجأ إليه أملاً فى السلام النفسى واستمراراً لعزلة المعسكر النازى القديمة، حكت له وهى تلملم شتات الذاكرة عن تلك الزهور التى كانت تحيط ببيتها القديم فى زمن الطفولة، وكم كانت تحب تلك الزهور، حين أغمى عليها ونقلها الإسعاف إلى المستشفى، خطط مومو لتهريبها تنفيذاً لوعده بألا يتركها، أخفاها فى القبو حتى ماتت وهى لا تعرفه لكنها كانت تحتضنه بعدما أهداها نفس الزهور التى كانت تعشقها فى طفولتها، وضع مومو وهو يبكى بحرقة على قبرها صورة بيتها القديم وشجرة زهورها المعشوقة التى كانت تشير إليها وهى تحكى، كان يلمح وشم الرقم المحفور على ذراعها منذ أن كانت فى أوشفيتز، وكان يتساءل بفضول، عرف أخيراً بعد أن ودعته.
ليست علاقة مومو بمدام روزا هى الوحيدة التى يجسدها الفيلم، هناك علاقات متناثرة لكنها كلها يجمعها التسامح وقبول الآخر وتفجير ينابيع الخير الموجودة تحت السطح الذى ربما يكون مشوهاً ظاهرياً، هناك علاقة بين الطفل مومو وتاجر السجاد الإيرانى الذى أرادت روزا أن يعمل معه ويعلمه أصول صنعة وفن ترميم السجاد، والذى يضع لوحة آية قرآنية بخط الثلث إلى جانب أفيش فيلم فى بيتنا رجل!!، وبين مومو وبين تاجر المخدرات الذى يستغله لتوزيع الصنف، وهناك علاقة التعاطف من روزا والطفل مع الجارة المتحولة جنسياً والتى كانت بطلاً للملاكمة عندما كانت رجلاً!!، نسيج دانتيلا سينمائى ويكفى أنه معطر بعطر صوفيا لورين، والتى كانت تسير بصعوبة فى المشاهد من أثر السن، لكن ما زال ألق عينيها يأسرنا ويجذبنا ويمنحنا عصارة الفن فى قارورة من النيجاتيف الساحر.