بقلم: خالد منتصر
كما توقعت منذ فترة عندما كتبت عن المقص الجينى، أن تفوز العالمتان صاحبتا هذا البحث العلمى بجائزة نوبل فى الكيمياء، كنت قد رشحتهما فى الطب، ولكن بالفعل ترشيحهما فى الكيمياء هو الأدق، لأن المقص الجينى ليس لعلاج الأمراض فقط، وهذا ما سنفهمه فى هذا المقال، لكن ما المقص الجينى؟ وما «كريسبر» وما حكايته؟، فى عام 1987، لاحظ علماء من اليابان وجود أجزاء غريبة داخل الحمض النووى لنوع معين من البكتيريا، كانت عبارة عن مقاطع مكرّرة عدة مرات وبينها فواصل ثابتة، لم يعرف العلماء تفسيراً لما شاهدوه، ومع تطور علم الوراثة الجزيئية وقيام العلماء بقراءة شفرات الحمض النووى للكثير من الكائنات، لاحظ العلماء فى عام 2002 أن هذه الأجزاء الغريبة التى تحدّث عنها العلماء اليابانيون موجودة فى أنواع كثيرة من البكتيريا، وأطلق عليها أحد العلماء الهولنديين اسماً طويلاً: «Clustered Regularly Interspaced Short Palindromic Repeats»، وتم اختصاره إلى «CRISPR» (كريسبر)، لاحظ هذا العالم الهولندى أن بجوار هذه الأجزاء الغريبة من الحمض النووى جيناً آخر لصناعة الإنزيمات، فأطلق عليه «البروتين المرتبط بكريسبر» (Cas)، فى عام 2005م، قامت ثلاث فرق مختلفة من علماء البيوانفورمتك (مختصون فى استعمال تقنية الحاسب الآلى فى حل معضلات علم الأحياء) بنشر ثلاثة أبحاث متشابهة، وحلوا لغز هذه الأجزاء الغريبة، واكتشفوا أن هذه الأجزاء عبارة عن أجزاء من فيروسات معادية للبكتيريا، قامت البكتيريا بنسخها وإدخالها فى شفرتها الوراثية، لكى تستعملها كجهاز مناعى للتعرّف على الفيروسات عندما تغزوها مرة أخرى، فتقوم بتدميرها!، وقتها لم تُعرف تبعات هذا الاكتشاف، وكان الأمر حتى هذه المرحلة غير مثير، فاكتشاف نظام مناعى للجراثيم قد يكون أمراً يهم المختصين بالبكتيريا والجراثيم، وليس ذا أهمية بالنسبة إلى الإنسان مباشرة، لكن فى عام 2011، وبالتعاون بين عالمتين فى العلوم، وهما اللتان حصلتا على نوبل هذا العام، واحدة تعمل فى كاليفورنيا بأمريكا (جنيفر دودنا)، وهى مهتمة بعلم الكيمياء، خصوصاً ما يُعرف بـ«آر إن آيه» (RNA) وأخرى تعمل فى ألمانيا، وهى من أصول فرنسية (إيمانويل شاربتنتجير)، وهى مهتمة بعلم الجراثيم (الميكروبيولوجى). كوّنت هاتان العالمتان فريقاً لإجراء أبحاث إضافية على هذا النظام المناعى، وقام الفريق بخطوة فجّرت القنبلة «الكبيرة»، حيث صمموا فى المختبر نسخة صناعية مشابهة للنظم الموجودة بالبكتيريا، وأجروا تجارب على نسختهم هذه، واكتشفوا قدرات هذا النظام الخارقة فى قص وقطع الحمض النووى بأماكن تم تحديدها مسبقاً، عندما نُشر البحث فى عام 2012، قام الكثير من العلماء بإجراء تجارب، وحاولوا الاستفادة من هذا الاكتشاف، بعدها توالت الأفكار والتخيّلات، وانفتح أمام العلماء علم جديد يعتمد على تقنية بسيطة وسهلة بتكلفة مالية قليلة، لكن ماذا سيفعل بنا وبالعالم هذا الكريسبر وما فائدته؟، إنه سيفعل المعجزات، تخيل تلك اللعبة السحرية التى ستتيح للأم ولادة طفل معدل جينياً، من الممكن تلافى عيوبه الخلقية الوراثية!! سنقول وقتها المجد للعلم الذى يمد أياديه البيضاء لإنقاذ الإنسان وإسعاده، فى المستقبل ومن خلال تلك الهندسة الجينية الثورية، سيدخل الأب والأم إلى المعمل ليطلبا ابناً بعينين زرقاوين وشعر أصفر.. أو بنتاً سمراء بعينىّ المها.. إلخ، وكأنهما يدخلان محل ترزى ملابس!! وستستطيع الدول التى تعرف سر تلك التقنية تكوين جيش السوبرمان، بعضلات مفتولة وذكاء حاد، ولكن هل هذه التقنية للأمراض الوراثية فقط وللإنسان على وجه الخصوص؟ بالطبع لا، فالباحثون استطاعوا بهذه التقنية أن يقوموا بعكس طفرات مسببة للعمى، وأن يوقفوا خلايا سرطانية عن التكاثر، أو جعل مجموعة من الخلايا منيعة ضد الإصابة بالفيروس المسبب للإيدز، وقد استفاد المهندسون الزراعيون منها فى تحرير جينات القمح الضعيف ذى القابلية للإصابة بالفطريات القاتلة مثل البياض الدقيقى، لتنقذ هذه التقنية أحد أهم المحاصيل حيوية فى تاريخ الإنسانية، كما أن المهندسين البيولوجيين استخدموها لتحرير الحمض النووى الخاص بالخميرة، بحيث تستهلك المواد النباتية وتخرج الإيثانول، ما يعد بانتهاء عصر البتروكيماويات، من حين لآخر، تظهر شركات كرّست نفسها فقط لتكنولوجيا «كريسبر»، شركات الأدوية والزراعة تتسابق للإمساك بزمام هذه التكنولوجيا، اثنتان من أشهر جامعات الولايات المتحدة تخوضان صراعاً محتدماً على براءات الاختراع الأساسية الخاصة بهذه التقنية، التعديل الجينى تم بواسطته صنع أطفال يحملون مادة وراثية من 3 آدميين، ما جعلهم أول البشر بـ3 آباء جينيين. هذه الأيام لدينا خنازير خارقة العضلات، وسالمون سريع النمو، ودجاج بلا ريش، وضفادع شفافة، وعلى سبيل التسلية صنعنا أشياء تلمع فى الظلام كالسمك المخطط. بالطبع البحث عن الخلود وإطالة العمر إلى أقصى مدى سيظل الحلم الذى يطارده العلماء، وبالهندسة الجينية وبمقص كريسبر سيعيش الإنسان مئات السنين، سنتمكن من حل المشكلة الأساسية المسببة للوفاة: التقدم فى العمر، ثلثا الـ150 ألف شخص الذين سيموتون اليوم، سيموتون لأسباب تتعلق بالتقدم فى العمر حالياً، نحن نعتقد أن التقدم فى العمر يحصل بسبب تكسر الـDNA وتعطل الجهاز المسئول عن إصلاح هذه الكسور مع الزمن، ولكن هنالك أيضاً جينات تؤثر مباشرة فى موضوع التقدم فى العمر. إن خليطاً من العلاج الجينى مع بضعة علاجات أخرى قد يبطئ الشيخوخة، نحن نعرف من الطبيعة أن هنالك حيوانات مقاومة للشيخوخة، ربما بإمكاننا أن نستعير منها بضعة جينات لأنفسنا، تقنية كريسبر من المؤكد أنها ستتجاوز كل توقعاتنا بكثير، لأن الكثير من الصناعات تعتمد الآن على الهندسة الوراثية. وقد بدأ الباحثون فعلياً باستخدام «كريسبر» لتطوير تقنية الوقود الحيوى بتحوير بعض النباتات لإنتاج أفضل، وكذلك تعديل وتصنيع إنزيمات جديدة وأكثر فاعلية للأسواق الصناعية كاستخدامها فى منظفات الملابس مثلاً، ومعالجة المياه، وإعادة استعمال الورق. كذلك فى الزراعة، فهناك توجه لبعض الشركات لاستخدام «كريسبر» لجعل المحاصيل أكثر مقاومة للآفات والجفاف دون استخدام الطرق القديمة فى التعديل التى واجهتها مشاكل تقنية معقدة. كذلك هناك شركات عملاقة فى التصنيع الغذائى تتعاون بعضها مع البعض فى مجال التعديل الجينى باستعمال تقنية كريسبر (كشركة دوبونت وشركة دودنا وكاريبو للعلوم البيولوجية) لإنتاج ذرة وقمح معدل وراثياً قد يصل للأسواق فى غضون خمس سنوات. كذلك مربو الحيوانات من الشركات العملاقة، فقد تقوم بتسخير هذه التقنية لإنتاج حيوانات ذات كتلة عضلية أكبر ولحم أفضل مذاقاً وبشكل أسرع فى عملية التهجين مقارنة بالطرق القديمة. إنها ثورة من الممكن أن تقضى على الصيدليات التقليدية وتنفى رابطة الزواج والولادة وتخلق شعوباً من السوبرمانات، أين نحن من كل ذلك؟! نحن ما زلنا فى محطة الشقشقة والرطرطة حول موضوعات صارت فى متحف التاريخ، لنا الله.