بقلم: خالد منتصر
الفرق بين الفن والهلاوس هو الوعى، من حقك أن تمارس جنون الخيال وتجمح به إلى أقصى حد، لكنه فى النهاية محكوم بإطار فنى، تكون فيه واعياً بما تفعل، يضيق الإطار أكثر ويتحدّد إذا كنت تتناول عملاً تاريخياً، فمن حقك كفنان أن تضيف الرتوش الفنية والقصصية التى تراها، لكن يحكمك فى النهاية عدم العبث بالحقائق والتفاصيل التاريخية، من حقك أن تعرض وجهة نظرك فى هذا التاريخ وتختار الزاوية التى تنظر منها إليه، لكن ليس من حقك تزييف الوقائع الأساسية، من حقك أن تنظر إلى نابليون عندما دخل مصر كمحتل، ومن حقك أيضاً أن تنظر إليه كحامل صدمة حضارية.
وجهتا نظر متعارضتان تنظران إلى الحدث نفسه بتفاسير واستقبالات مختلفة، لكن ليس من حقك أن تقول إن نابليون دخل مصر سنة ١٩١٩ ثم تقول لى.. هذه حرية خيال!!، أو تقول إن كتاب «وصف مصر» ألفه عمر مكرم وسرقه الفرنسيون منه!! نابليون متى ولد، ومتى مات، وماذا كان يلبس، وما الأمراض التى داهمته..إلخ؟، لا بد أن تدقّق فى كل تلك النقاط إذا كنت فناناً يمجّد الدقة ويسعى إلى الكمال ويراعى الضمير والصدق فى عمله الفنى، كان من السهل على شادى عبدالسلام أن يسلق المومياء أو الفلاح الفصيح، ولا يُتعب مخه ويُنهك قلبه فى دراسة الملابس والاكسسوارات.. إلخ.
ويقول أنا أقوم بتسلية الناس وحكى الحواديت لهم، لكنه لم يستسهل أو يكسّل ويعتبرها «نحتاية» بلغة أهل الفن، نسمع عن وسوسة أهل هوليوود والسينما الأوروبية عندما يتصدّون لعمل تاريخى، يكفى أن ننظر إلى بطل فيلم غاندى مثلاً لنعرف كم أجهد المخرج نفسه ليستحضر الشكل والروح، يكفى أن نعرف أن هناك نجوماً أنقصوا وزنهم بريجيم قاسٍ من أجل مشهدين أو ثلاثة، نجمة تحلق شعرها الجميل الطويل بالموس، نجم يرتدى ملابس رثة وينام على الأرصفة لكى يصل إلى الصدق، وهنا فى مصر كان يا ما كان أحمد زكى الذى أراد من فرط الصدق أن يكسر أنفه ليصبح عبدالناصر!!، أنا مندهش من رد فعل بعض الفنانين الذين ناصروا «الطلسأة» التى حدثت عند تناول التاريخ الفرعونى فى أحد المسلسلات، وكان ظاهراً أن هناك أخطاء فادحة ومراجعة قاصرة من المراجع التاريخى، وبرّروا ذلك بأنها الرؤية الفنية ولنحكم بعد الفرجة، يعنى تناول الطعام وأنت ساكت، واللى نقدمهولك تاخده على عماك، وتم الاستخفاف برأى الجمهور من هؤلاء الفنانين، ودخلوا فى عداء مفتعل معهم، ولم يردوا على تلك الأخطاء إلا بجملة «إحنا أحرار»!!، فعلاً أنت حر فى الرؤية، فى البناء، لكن أرض التاريخ التى يقف عليها العمل لا بد أن تحترم مصداقيتها ودقة تفاصيلها.
المفروض على الفنان أن يفرح أن المتفرج صار يمتلك حساً تاريخياً مولعاً بالتفاصيل ومراقباً للمصداقية، وتذوقاً نقدياً راقياً محباً للمجتهد غير الكسول، لا تتعالَّ صديقى الفنان على رأى الناس، خاصة لو كنت لا تبحث عن «البيرفيكشن»، بل تبحث عن السبوبة.