بقلم: خالد منتصر
ما أصعب وما أقسى أن تكون كاتباً مستقبلياً فى مجتمع يقدس الماضى، يا لها من مهمة شبه مستحيلة أن تعيش كراهب فى محراب المستقبل ومعظم مَن حولك محنطون فى توابيت ما قبل القرون الوسطى، هذه كانت صعوبة مهمة الكاتب العظيم الراحل راجى عنايت، الذى كان ينظر حوله فيجد أناساً عيونهم فى القفا، ينظرون إلى الخلف دائماً ويظنون أنهم يتقدمون فى سيرهم، ظل يصرخ طيلة حياته: «راهِنوا على المستقبل وناضِلوا من أجله»، لكن هل أيقظت صيحة الكاتب المستقبلى مَن يقدسون ساكنى المقابر ويستفتونهم فى كل شئون حياتهم؟! كان هذا هو السؤال المؤرق.
منذ عشر سنوات استقبلت رسالة من هذا الرجل العظيم المعلم، ونشرت بعضاً منها لأنه كان يناقش قضية التعليم وكيف أنه مفتاح حل مشكلات مصر، نشرتها تحت عنوان «راجى عنايت يدق ناقوس الخطر فاسمعوه»، كتبت: لن يحدث تقدم فى مصر بدون إصلاح ثورى فى نظام التعليم، وكل ما يحدث من بناء مدارس جديدة أو تغيير مناهج أو طلاء جدران فصول أو حتى تكديس ألف كمبيوتر فى كل مدرسة... إلخ، كل هذا لن يغير التعليم المصرى ولن يخلق إلا نمطاً ببغائياً من طلاب وتلاميذ غير قادرين على الاندماج فى عصر المعلومات الذى لا ينفعه تعليم الكتاتيب وألفية ابن مالك وحقن التلقين والملخصات والدروس الخصوصية، أرسل لى أستاذى ومعلمى راجى عنايت، الذى لم أقابله وجهاً لوجه، بل قابلته على الورق وتعلمت منه من خلال كتاباته المدهشة المستفزة لكسل العقل المصرى المزمن، ما أرسله راجى عنايت ليس مجرد رسالة عادية ولكنه مشروع متكامل ورؤية فكرية متماسكة لإنقاذ التعليم، وأعتقد، من خلال وجهة نظرى المتواضعة، أنها من أهم الكتابات التى تناولت التعليم المصرى من خلال فلسفة متكاملة وخطوط عامة ورؤية ثاقبة متعمقة بدون الغرق فى تفاصيل تافهة وسطحية، إنه لم يناقش تغيير بعض النغمات لتجميل اللحن، بل طالب بتغيير القيثارة نفسها.
وجهة نظر الأستاذ راجى عنايت أن تعليمنا لم يتجاوز مرحلة المجتمع الصناعى النمطى القديم ولم يدخل بعد عصر المعلومات، وقد لخّص صفات تعليم عصر المعلومات فى أنه تعليم يساعد على التفرّد، ويناهض القولبة، ومحاولة جعل الأفراد آحاداً متراصة متشابهة، هو تعليم خالق للمعرفة، يحض على التفكير والابتكار، ويحارب التبعية النمطية والتلقين، تعليم يستفيد من دخول الأجيال إلى كل منابع المعلومات والمعارف، بلا قيود أو وصاية، تعليم يناهض كل ما هو جماهيرى، من رواسب نظم عصر الصناعة، ويحترم الفروق بين الأفراد، تعليم لا يضع قيداً على العقيدة، ويحترم التنوّع الشديد الذى استحدثه تدفّق المعلومات والمعارف فى عقائد البشر وتوجّهاتهم، ويحضّ الفرد على الإيمان بأن اختلافه عن الآخرين هو مصدر ثراء له وللآخرين، كل ما سبق يجبرنا على أن نغير نمط تعليمنا من التلقين إلى الابتكار، فالكمبيوتر أحال قدراتنا الروتينية على المعاش فلم يبقَ لنا إلا الإبداع والابتكار، ولا بد أن نتحول إلى التعليم المفتوح عبر شبكات المعرفة المختلفة وننهى احتكار المدرسة للتعليم، وننتقل من التعليم النمطى الذى يعتمد على التقسيم العمرى إلى التعليم الذى يحترم القدرات الخاصة المختلفة لكل فرد، ولا بد أن نتبنى مفهوم التعليم مدى الحياة ونعتبر أن الشهادة مجرد بداية لتخريج مشروع باحث.
راجى عنايت يدق ناقوس الخطر، فمن خلال هذا النظام سنُخرج جيشاً من مدمنى البطالة الفاقدين للعقل الناقد المبتكر، سنزحف إلى الخلف أكثر وأكثر، استمعوا إلى راجى عنايت الذى لو كنت وزيراً للإعلام لخصصت له حلقة أسبوعية ليشرح لنا خريطة إنقاذ العقل المصرى بدلاً من خفافيش ودعاة الظلام.