بقلم - خالد منتصر
أحسن د. هيثم الحاج على، رئيس هيئة الكتاب، صنعاً باختيار الكاتب الكبير عبدالرحمن الشرقاوى شخصية المعرض لهذا العام، اختيار ذكى له دلالة قوية ويبعث برسالة مهمة، وهى أن الثقافة ليست لحظة فوران سرعان ما تخمد، بل إنها معركة طويلة ضد الجهل والتخلف، وأن معرض الكتاب هو رسالة تنوير تستفز وتوقظ وتحفّز وتحرّض، وليس مجرد رفوف عليها كتب خرساء فى قاعات للبيع والشراء، فقد عاش «الشرقاوى» حياته كلها من أجل إرساء قيمة الحرية، لم يبع قلمه ولم يؤجر عقله وثقافته شقة مفروشة لشخص أو نظام، خاض معركة الحرية وصوته من دماغه ورزقه تحت ظل قلمه الحر الأبىّ فقط، ليس على مستوى المضمون الذى يكتبه فحسب، ولكن حتى على مستوى الشكل، فقد خاض تجربة الشعر الحديث والشكل الجديد لقصيدة النثر، ربما قبل كل الأسماء التى صارت بعد ذلك من روّاده، سواء فى مصر أو العراق، وكان النموذج المحتذَى قصيدته الشهيرة «من أب مصرى إلى الرئيس ترومان». وعلى مستوى المسرح الشعرى فقد كانت نقلته نوعية ثورية تجاوزت شوقى وعزيز أباظة، وظهرت فيها حيوية الدراما، وصارت مسرحاً شعرياً وليس شعراً ممسرحاً!
وعلى مستوى الشكل الصحفى كان تعاونه مع الرسام حسن فؤاد فى مجلة «الغد»، وهو ما زال فى العشرينات، يدل على رؤيته المستقبلية لشكل الصحافة الذى سيحتل فيه الرسم والصورة المكانة الأهم، وكان الشرقاوى، صاحب رواية «الأرض»، هو الفلاح صاحب مشتل بذور الكتابة الجديدة، ففى مجلتَى «الغد» و«الفجر الجديد» ظهرت وكتبت تقريباً كل أسماء الستينات اللامعة فى القصة والرواية والشعر والمسرح، أما فى الكتابات الإسلامية فقد كان متفرداً صاحب منهج مختلف فى تناول الشخصيات الإسلامية، ولا يمكن أن ننسى زاوية الرؤية الطازجة البكر فى كتاب «محمد رسول الحرية»، والدراما الملحمية فى مجلده الضخم «على إمام المتقين». الحرية دائماً كانت هدفه ومبتغاه، وأيضاً كانت خنجره الذى طعن به فى معارك كثيرة أثخنت روحه المتوثبة بالجراح، دخل معركة مع نظام عبدالناصر حين انتقد قرار حرب اليمن فى مسرحية «الفتى مهران»، خاض معركة مع مؤسسة الأزهر حين رفض شيخ الأزهر عبدالحليم محمود عرض المسرحية بعد أن كادت تخرج إلى النور، وبعد أن أنهى المخرج كرم مطاوع البروفات واختار عبدالله غيث لبطولة المسرحية تم منع المسرحية ولم تُعرض حتى الآن، وظلت وشماً قبيحاً ووجعاً مخجلاً فى جسد الثقافة المصرية، المعركة الثانية كانت مع السادات وتوصيف الشرقاوى لانتفاضة يناير، فقد كان الشرقاوى رئيساً لمجلس إدارة «روز اليوسف» وقتها، وأصدر السادات قراره بعزل رئيسَى التحرير صلاح حافظ وفتحى غانم لقولهما إنها انتفاضة شعبية، كان الشرقاوى بذكائه ورفعه لسقف الحرية قد رفع توزيع «روزا» من خمسة آلاف نسخة إلى ما يزيد على مائة ألف نسخة، وخاف السادات من هذا التأثير المذهل، أصر الشرقاوى على عدم عزل حافظ وغانم، فعزله السادات من مجلس الإدارة، واغتيلت روز اليوسف وقتها بتعيين مَن أعادها إلى زمن الخمسة آلاف نسخة.
عبدالرحمن الشرقاوى ثورة مسرحية وشعرية وروائية وصحفية وسينمائية، وقبل كل ذلك ثورة إنسانية، فقد كان إنساناً جميلاً عاش حياة قصيرة لكنها حياة ثرية معطاءة تركت بصمة عميقة فى القلب والعقل لدرجة أننا ما زلنا نتذكره بنفس قوة الحضور ورائحة عطر الوجود بعد أكثر من ثلاثين سنة على وفاته فى أكبر محفل ثقافى عربى وهو معرض الكتاب
نقلا عن الوطن القاهريه