بقلم: خالد منتصر
وصلتنى رسالة من أستاذ الفلسفة المعروف د. سعيد توفيق يقدم فيها قراءة لسيرة د. أحمد عكاشة الذاتية، التى صدرت فى كتاب بعنوان «نفسى»، تعالوا معاً نرى كيف تكرّم الفلسفة الطب النفسى، يقول د. سعيد توفيق:
حياة الدكتور أحمد عكاشة تاريخ حافل بالعلم والفكر معاً. ومن هنا تأتى أهمية روايته لسيرته الذاتية بعنوان «نفسى»، التى تُطلِعنا على تاريخه الذى صنع اسمه، وتقدّم لنا خبراته العميقة بالحياة وعالمه المعيش، وهى السيرة التى صاغها باقتدار الكاتب المرموق محمد السيد صالح.
السيرة الذاتية فن قائم بذاته، يختلف عن التراجم والمذكرات، وإن تنوّعت أشكال هذا الفن، حسب طبيعة العالم الذى تريد الذات أن تصوّره. وهذه السيرة عامرة بخبرات الحياة الخصبة التى شكّلت «نفس» أو «عقل» أحمد عكاشة، من خلال محطات رئيسية فى حياته. كل محطة من هذه المحطات تستحق الوقوف عندها، بما لها من دلالات عميقة يتداخل فيها التاريخ الشخصى لأحمد عكاشة مع لحظات مهمة من التاريخ السياسى والاجتماعى لمصر:
فى البداية نتعرّف على نشأة أحمد عكاشة فى أسرة سياسية من جهة الأب والأم معاً، وصولاً إلى الجد، كما أن هذه الأسرة كانت تتمتّع بالثراء والوجاهة الاجتماعية. لكننا ينبغى أن نتوقف هنا عند دلالة مهمة، وهى أن ابن هذه الطبقة الراقية قد تلقى تعليمه فى المدارس الحكومية، ومن بعد فى جامعة عين شمس، وهو أمر دال على الجودة الحقيقية، التى كان عليها التعليم فى مصر قبل أن يتحول تدريجيّاً إلى تعليم هشّ لأبناء الطبقة الثرية.
كما أننا نتعرّف فى سياق الحكى على أحداث وشخصيات بارزة فى فترة الحكم الملكى، وصولاً إلى الضباط الأحرار الذين كانوا يأتون إلى بيت الأسرة فى العباسية، حيث كان أحمد الصبى آنذاك يعيش مع أخيه ثروت، أحد هؤلاء الضباط. كانوا يتسامرون ويتناقشون ويستمعون إلى الموسيقى. ومن خلال هذا الحكى نتعرّف على علاقة الضباط الأحرار بعضهم ببعض، ورؤية أحمد (مع حفظ الألقاب) لكثير منهم.
ومن المحطات الرئيسية فى هذه السيرة علاقة أحمد بأخيه الأكبر ثروت الذى كان بالنسبة إليه بمثابة الأب والمعلم والصديق: لقد أخذه بالشدة وعلمه الانضباط منذ كان صبيّاً، كما علمه حب الموسيقى الكلاسيكية وحُسن تذوقها، وفى ذلك تفاصيل طريفة يمكن أن يرجع إليها القارئ. ظل حب الموسيقى متأصلاً فى عقله وروحه. أذكر هنا أننى ما من مرة من المرات القليلة التى التقيته فيها إلا وجدته يذكر دائماً شيئاً ما عن الموسيقى. لكننا هنا أيضاً ينبغى أن نقرأ دلالة مهمة، وهى أن هذه الشدة والصرامة والانضباط التى ميّزت الضابط ثروت عكاشة، قد اقترنت بروح الفن الطليقة المتحرّرة من القيود والصرامة. وهذا أمر قد يبدو مدهشاً، لكننى على قناعة بأن العقول الكبيرة غالباً ما تكون غير واحدية البعد، وقادرة على الجمع بين الأضداد أو المتناقضات.
وهناك محطة أخيرة فى هذه السيرة تستغرق قدراً كبيراً منها، وهى تلك التى تتعلق بالمسيرة التعليمية والعلمية والمهنية لأحمد عكاشة، لكننا فى كل تفصيلة من هذه التفاصيل نتعلم درساً عن روح الطموح والاجتهاد المتواصل من أجل بلوغ المكانة الرفيعة فى العلم والمعرفة، ونتعلم الكثير عن الأمراض النفسية (أو على الأدق: الأمراض العقلية التى تحدث فى المخ) التى تعترى البشر، والأمراض العقلية التى تعترى الكثير من العباقرة من أمثال صديقه جون ناش، الذى تحولت قصته إلى فيلم شهير، وهو «العقل الجميل». ولعل أحمد عكاشة نفسه يكون مثالاً على نوع آخر من العقل الجميل الذى يجمع بين الأضداد، بين الصرامة العلمية وروح الفن الطليقة؛ كما أن ذكاءه المفرط يقترن باتزان نفسى بالغ، فضلاً عن حرصه الدائم على أن يقدّم خبراته العلمية إلى شباب الباحثين، وخبراته الإنسانية إلى عموم الناس؛ لذلك فإن من يستمع إليه، لا بد أن يتعلم درساً فى فن الحياة أو فن السعادة.