بقلم : خالد منتصر
«شواكيش تدق فى نافوخى».. «عينى ستخرج من مكانها».. «لا أستطيع حتى أن أتلفت»..كل هذه التعبيرات وغيرها هى نشيد الصباح اليومى لأكثر من 200 مليون مريض على مستوى العالم يعانون أخطر أنواع الألم، ألم «الصداع النصفى» migraine ذلك الصديق الرذل الغلس، الذى يهبط عليك دون استئذان، ويخبط على جمجمتك بكرة من الحديد الملتهب، وأنت لا تستطيع أن تمنعه من الاقتحام، منذ يومين أعلنت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية عن موافقتها على أحدث علاج للصداع النصفى، وصار الخبر مانشيت الصدارة فى الصحف العالمية، والخبر الرئيسى فى نشرات الأخبار، فالدواء يعتبر ثورة فى عالم علاج أسخف الأعراض الطبية وأكثرها مدعاة لليأس والإحباط وأحياناً الانتحار!، الدواء اسمه Aimovig من إنتاج شركتى نوفارتس وأمجين، وسر احتفاء العالم الطبى به هو أنه مانع وكابح لظهور الصداع، وليس مسكناً، أى أنه يعمل فى مرحلة ما قبل وليس مرحلة ما بعد، عن طريق إغلاق وفرملة ما يسمى الببتيد المرتبط بجين الكالسيتونين، وهذه هى ثورة الطب الحديث والأبحاث الجديدة، تدخل على السبب الرئيسى والميكانزم الفاعل المؤثر مباشرة، ولذلك أطلق عليه أول دواء معالج للصداع النصفى بحق وحقيقى، لأن سهمه أصاب الهدف وبمجرد حقنة شهرياً، بالطبع هى خطوة على الطريق، وليست نهاية الطريق، فالعلاج الناجع الجذرى الذى يمنعه إلى الأبد لم يكتشف بعد، ولكننا بهذا الدواء وضعنا المفتاح الصحيح فى الباب الصحيح، بالطبع تكلفة الدواء مرتفعة على دولة منهكة اقتصادياً مثلنا، فالدواء مجمل تكلفته 6900 دولار سنوياً مقسمة على اثنتى عشرة حقنة، من أعراضه الجانبية الإمساك، وسيتوافر فى أمريكا تجارياً فى غضون شهور قليلة، أما فى أوروبا، فهو ما زال ينتظر موافقة هيئة الدواء الأوروبية.
الصداع ضيف ثقيل لا ينتظر عزومة!، والمأساة التى يحس بها مريض الصداع النصفى هى أن من حوله لا يأخذون شكواه مأخذ الجد، ويعتبرونها من قبيل الدلع أو قلة الاحتمال فيطلبون منه أن يمارس حياته العادية معهم، بل إنهم فى بعض الأحيان يخاصمونه إذا لم يتفاعل بالشكل المطلوب، وكل ذلك ناتج من أن الشكوى هى ذاتية، وليست لها علامات خارجية موضوعية يستطيع ملاحظتها من هم حول المريض، فيظل المريض دائماً فى قفص الاتهام يعانى من توتر تبرير وشرح حالته للآخرين ما يزيد الحالة تفاقماً ويدخل المريض فى دائرة مغلقة.
ومما سبق نستطيع أن نصف الصداع النصفى بأنه مرض عضوى واجتماعى، ولنستمع إلى نموذج لشكوى من ملفات إحدى العيادات الأمريكية المتخصصة فى علاج الصداع لنقترب أكثر من ملامح هذا الضيف الثقيل، وذلك على لسان امرأة فى الثانية والأربعين تقول إنه يحطمنى، ينبض داخل جمجمتى مع كل دقة قلب، إنه يصاحبنى مع كل دورة شهرية منذ البلوغ، علاوة على مرات أخرى خلال الشهر، يسبقه دائماً فلاشات ضوء مثل الشرار، ومن الممكن أن تستمر الهجمة ثلاثة أيام، جربت كل شىء، لجأت إلى الإبر والمساج، وحتى الهرمونات التى لجأت إليها لتبكير سن اليأس، تناولت 180 نوعاً من الدواء بداية من مضادات الحساسية والقىء، حتى مضادات الاكتئاب والألم، ومنها المورفين كل ذلك بلا فائدة..
وطبقاً للإحصائيات الأمريكية، فإن الصداع النصفى يصيب 25 مليون أمريكى وثلاثة أرباع هذا العدد هو من النساء، والخطير أن نصف هذا العدد لا يعرف مما يعانى مما جعل مجلة النيوزويك فى عدد 11 يناير منذ عشرين سنة تفرد الغلاف لهذا المرض، وتطلق على عام 1998 عام الصداع النصفى نظراً لما حدث فيه من ثورة فى فهم وعلاج هذا المرض.
وليس كل ألم فى الرأس صداعاً نصفياً، فالصداع النصفى ليس مجرد وصف لألم، بل إنه تشخيص دقيق ومحدد لألم يبدأ فى أحد جانبى الرأس ومصحوب عادة بغثيان وحساسية شديدة للضوء والصوت، وقد استطاع العلماء تصنيف واحد وعشرين نوعاً من ألم الرأس بداية من صداع التوتر إلى الصداع الناتج عن الأورام، والمتهم المذنب فى حالة الصداع النصفى هو الأوعية الدموية المحيطة بالمخ والتى تتمدد وتضغط على الأعصاب المجاورة ومن ضمن الدلائل العلمية على ذلك هو الصداع الناشئ عن سحب الكافيين، الذى يتسبب تناوله فى انقباض للأوعية الدموية، وعندما يتوقف فجأة تتمدد الشرايين ويحدث الصداع.
يسبق الصداع النصفى فى نحو 15% من المرضى إنذار، أو ما يسمى بالـaura التى من الممكن أن تكون على صورة اضطرابات فى الرؤية أو ضعف وتنميل فى ناحية من الجسم أو بطء فى الكلام.. إلخ. إنه يحدث فى أى وقت، ولكنه بالنسبة للسيدات يحدث غالباً مع التغيرات الهرمونية، مثل العادة الشهرية والتبويض، وكما أن الصداع لا يحترم الوقت فهو لا يحترم أيضاً الجنس أو السن، فهو يصيب الرجال والنساء على السواء بنسبة 1:3 كما ذكرنا ويصيب أيضاً أى سن حتى الأطفال، ولكن معظم الحالات تنحصر ما بين الثلاثين والأربعين.
ولأن الغموض صفة أساسية فى هذا المرض، فإن أسرى الصداع يحاولون أن يخترعوا أسباباً مختلفة يعزون إليها الصداع كآخر طوق نجاة، فيتهمون تارة الطعام، مثل المكسرات والشيكولاتة والجبن وتارة أخرى يرجعونه إلى قلة النوم أو الجوع أو الرطوبة وعلى العكس يرجعه البعض إلى زيادة النوم أو الشبع أو الجفاف، وفى وسط هذه الأمواج المتلاطمة، حاول العلماء البحث عن شاطئ، ما أدى بطبيب اسمه ميشيل فيرارى من جامعة ليدن بهولندا أن يصرح: «إننا قد خلقنا مرضى رافضين لفعل أى شىء، رافضين للأكل والشرب وحتى النوم، وبالرغم من ذلك فالصداع النصفى ما زال ضيفاً عليهم».
وأصعب الأمواج العاتية التى تواجه العلماء فى أبحاثهم هى أن الصداع لا يمكن توقعه ولا تحديد قوته بالقياسات المعملية أو حتى بصور الأشعة، وحتى الأساس الوراثى الذى كان متهماً على الدوام لم يتمكن العلماء من تحديده إلا فى نوع واحد فقط ونادر وهو النوع الذى يبدأ إنذاره بشبه شلل نصفى.
وتاريخ الصداع حافل بالأساطير والحكايات، ففى كتب الطب القديمة يوصف الصداع النصفى على أنه مرض الأرستقراطيات الفارغات، ولكن اتضح فيما بعد أنه برىء وليس مرضاً طبقياً على الإطلاق.
حلم القضاء على الصداع النصفى ما زال مستمراً، والعلم لا يمل ولا يصيبه اليأس أبداً.
نقلا عن الوطن القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع