بقلم: خالد منتصر
كتب السيرة الذاتية لها مذاق خاص وطعم فريد. أعشق قراءتها، ولها فى نفسى مكانة تجعلنى أؤجل قراءة أى كتاب مهما كان موضوعه إذا صادفت أو اقتنيت أو أهدانى صديق كتاباً يحكى مسيرة ورحلة إنسان، فما بالك لو كان هذا الكتاب لأستاذى الذى أعتز به وصديقى الذى أفخر بمعرفته والاقتراب من محرابه، د. أحمد عكاشة الذى أناديه دائماً بسوبر ستار الطب النفسى! فهناك الكثير من النجوم فى كل مجال، الفن والرياضة والطب... إلخ، لكن يظل دائماً هناك سوبر ستار واحد متميز له كاريزما خاصة تجعله وشماً فى الروح والعقل والقلب، وأستاذنا د. عكاشة هو من هؤلاء، أصحاب البصمة الباقية والطلة البهية والوشم الخالد.
كتاب «نفسى» الصادر عن دار بتانة، والذى حرره الصحفى المتميز والمجتهد فى هذا المجال محمد السيد صالح، ليس مجرد كتاب حكايات وسرد لرحلة طبيب نفسى، ولكنه جدارية تاريخ وبورتريه وطن، فالتركيبة العائلية للدكتور أحمد عكاشة جعلته منغمساً ومندمجاً فى تناقضات وتفاصيل عاصفة، تُنضج أى شاب قبل الأوان، الأخ الأكبر د. ثروت عكاشة هو عضو فى تنظيم الضباط الأحرار، وزوج الأخت صحفى، ولكنه ليس صحفياً عادياً بل هو من كبار الصحفيين المؤثرين فى مصر، أحمد أبوالفتح، هذا الرجل الذى صارت بينه وبين عبدالناصر عداوة وصلت إلى حد النفى والمطاردة، كوكتيل تاريخى منح ابن العشرينات حكمة الشيوخ، خلطة سرية فتحت عينيه على بانوراما صراعات الحياة، وجعلت قراراته مدهشة وصادمة وخارج المألوف، مثل قراره وهو الرابع على كلية الطب أن يتخصص فى الطب النفسى الذى كان تخصصاً مجهولاً حينذاك فى مصر. اقتحم د. عكاشة هذا المجهول وسافر إلى لندن، وهناك اتخذ قراراً آخر محلقاً خارج السرب، وهو زواجه من «جينيفر» الإنجليزية التى أكمل رحلة استقلاله معها فى مصر التى عاد إليها بينما كانت إنجلترا تفتح ذراعيها له وتعده بالجنة والفردوس. قرر أن يعتمد على نفسه خارج أسوار العون المادى العائلى، وعاش فى شقة ليست قصراً ولكنها بالنسبة إليه كانت قصر أحلامه، كانت هى البيت والعيادة.
رحلة كفاح بدأت من العباسية، وعبرت محطات كثيرة، من بينها رئاسته للجمعية العالمية للطب النفسى، وعمله الآن مستشاراً للرئيس، مروراً بترسيخه لمبدأ أن الطبيب النفسى ليس ساكن البرج العاجى الذى يدخن البايب ويقلب فى مراجع فرويد بينما يداعب لحيته، بل نزل إلى الشارع والميديا يشرح ويبسّط ويزيل وصمة الطب النفسى. اقتحم معارك كان غبارها كثيفاً وخانقاً وصادماً، مثل معركته ضد التيار التى جعلت شيخ الأزهر د. سيد طنطاوى يعترف بمريض التحول الجنسى، إشرافه على أعمال درامية لتصحيح نظرة المجتمع للمرض النفسى وشطب عار كلمة مجنون من القاموس، علاقاته مع الكتّاب والفنانين ورجال السياسة، لم يُضبط مرة متلبساً بفضح أو كشف سر من تعروا أمامه نفسياً على الشيزلونج، إنه خط أحمر بالنسبة له، وهذا درس لكل من يبحث عن السبق والتريند واللايكات والشو فى مجال الطب النفسى.
الكتاب فيه من جاذبية الحكى وشغف التفاصيل وصدق العرض وثراء التجربة ما يجعله كنزاً فى مكتبتك لا غنى عنه، ستقرأه مرات ومرات، لأنه عن بحّار خاض بقاربه الإنسانى البسيط ومجدافه النورانى المغامر أمواجاً عاتية للوصول إلى شواطئ مجهولة وقارات غامضة، ليس فى جعبته إلا بوصلة عناد المثابر، وذكاء المقاتل، وطيبة المحب، وتحدى المصرى الذى أسّس لفجر الضمير.. دمت لنا دعماً وحضناً وملاذاً ونبع حب لا ينضب.