بقلم: خالد منتصر
«مردوخ»، فى أساطير العراق، هو كبير آلهة البابليين الذكر، وانتصاره كان على «تيامت»، الإلهة الأنثى.. هنا اكتمل إقصاء المرأة ونُزع عنها رداء القدسية وخسر العالم السلام والسكينة وافتقد إحساس دفء رحم الأمان وبدأ ترسيخ العنف والحرب كوسيلة حسم للصراع.. هذا هو ملخص رحلتى مع كتاب ممتع وجذاب عنوانه «المرأة والألوهة المؤنثة فى حضارات وادى الرافدين» للكاتبة والباحثة المتميزة ميادة كيالى، والصادر عن مؤسسة «مؤمنون بلا حدود».. الكتاب لغته رشيقة خالية من التعقيد المصاحب لمعظم دراسات تلك المرحلة، وأفكاره واضحة ومنظمة ومرتبة وغير موجهة للأكاديميين فقط.
من يبحث فى تاريخ الأديان لا يمكن أن يتجاهل حضارات وادى الرافدين سواء السومرية أو البابلية أو الآشورية، بل هى دائماً المنطلق والمقياس والكتالوج لفهم وتفسير ومقارنة الأديان بما فيها الأديان التوحيدية، لولا الألواح الطينية التى نقش عليها السومريون أفكارهم وشرائعهم ما كان علم مقارنة الأديان ولا كان هذا الكتاب الرائع الذى اعترفت فيه الكاتبة بفضل أستاذيها الكبيرين خزعل الماجدى وفراس السواح عليها فى ثراء وغنى موضوعه.
بدأت الألوهة فى سومر مؤنثة إلى أن بدأ تدجين الحيوانات وعرف الرجل دوره فى التخصيب وفهم قوة الذكر الاغتصابية من الحيوانات المدجنة، فأخضع المرأة، وزاد الإخضاع مع اكتشاف المعادن وظهور الملكية الفردية وبدء ظهور الطبقات وضرورة النسب للذكر، هنا بدأ الانقلاب الذكورى والنظام الأبوى وهمشت المرأة وأزيحت من على عرشها، ظهرت التشريعات البابلية تزامناً مع الهيمنة الذكورية وصار الزواج عقد شراء، وصارت المرأة بضاعة للاقتناء لا حضناً للاحتماء، تم الانقلاب على الإلهة الأنثى التى «كانت تستمع وتستشير وتقرر وتحمل الرحمة فى أحشائها»، قرر الذكر «مواجهتها متسلحاً ليس فقط بقوته، بل بتأييد لاهوتى واسع ليرهب بعدها الجميع ويهيئ الطريق للتفرد والتمركز فى إدارة الكون الذى سيشكله من أشلاء الإلهة الأم»، ودعتنا ورحلت «تيامت» الأنثى التى كانت تحمل فى رحمها السكون والمشورة والتعايش، عندما انتصر مردوخ عليها لم يكتفِ بالنصر ولكنه مزق جسدها ليخلق منه تفاصيل العالم، مزقها وأرسى عقيدة العنف الجماعى والحل الإقصائى.
الكاتبة لم تفعل مثل مردوخ ومزقت الجسد لكنها فعلت مثل إيزيس ولملمت الأشلاء، لم تكتفِ بالطرح والتحليل، لكنها فى نهاية الكتاب قدمت نداء لإعادة النظر فى مسلمات الخطيئة الأولى والنظرة الدونية للمرأة، وإعادة دراسة الأساطير ومقارنتها مع نصوص الأديان التوحيدية، فى سبيل فهم أوسع وأعمق لمراحل تطور الوعى الإنسانى، ومحاولة رسم فلسفة دينية جديدة نابعة من فصل كل ما هو دنيوى عما هو قدسى لتتضح حدود كل منهما، فلا تختلط الأمور ويلوى عنق النصوص لتلائم فئة أو أيديولوجيا على أخرى.
استكملت ميادة كيالى عرض رؤيتها فى خاتمة الكتاب قائلة: «وحتى يتم فصل الاشتباك ما بين التشريع والاجتماع، أو بين ما هو دينى وبين ما هو دنيوى، فإن الحاجة تغدو ضرورية لتشريعات مدنية تنصف النساء وتكرمهن، فالله لم يخلق الإنسان لكى يشقى، بل ليتمتع بحياة كريمة، وليكون صورة كاملة عن الإله بكل الخير والرحمة التى يمثلها، فالمرأة تحمل فى أحشائها مولد الحياة والرحمة، ولها الحق فى أن تكون شريكة حقيقية فى صياغة أشكال الحياة بمختلف وجوهها».