بقلم: خالد منتصر
كتبها الراحل صلاح عبدالصبور فى مسرحيته الشعرية، لكننا لم نتخيل أنها نبوءة زرقاء اليمامة، كتب فى ما سماه «يوميات نبى مهزوم»:
«لن ينجيَكم أن تعتصموا منهُ بأعالى جبل الصمت.. أو ببطون الغابات
لن ينجيَكم أن تختبئوا فى حجراتكمو
أو تحت وسائدِكم.. أو فى بالوعات الحمّامات
لن ينجيَكم أن تلتصقوا بالجدران
إلى أن يصبح كل منكم ظلاً مشبوحاً عانقَ ظلاً»
تذكّرت تلك الأبيات، وأنا أتابع ما يحدث بين إيران وأمريكا، الذى وصل مداه إلى تحذيرات روسيا بأننا مُقدمون على حرب نووية، وسرعة الإيقاع تجعلنى حائراً، هل يستطيع كاتب أن يكتب أو يتوقع فى ظل هذا الإيقاع الرهيب الفائق السرعة، أتوقع أن ما أكتبه الآن فى الحادية عشرة صباحاً، وسيتم نشره غداً، سيكون قد تراكم عليه ألف خبر وتحليل وتأكيد ونفى، إذا كان الكاتب عاجزاً عن التنبؤ، فالشاعر قادر على أن يتوقع، كما فئران السفينة الذين يحسون بالزلزال قبل رصده بالأجهزة، المتوافر والمتاح الآن من أخبار ادعاء إيرانى بمصرع ثمانين جندياً أمريكياً فى قاعدة الأنبار بالعراق، «ترامب» ينفى وجود قتلى، أنباء عن معرفة أمريكية مسبقة ببلاغ لسحب جنودها من القاعدة، سقوط طائرة أوكرانية أقلعت من طهران ومصرع جميع ركابها، أقوال بأن سقوط الطائرة نتيجة صاروخ إيرانى خاطئ.. إلخ، أخبار تلو الأخبار، أيها الصدق وأيها الكذب، لا أحد يعرف؟، حتى رحم الغد لن يلد جنين الحقيقة، لكن الشىء الوحيد الواضح أننا فى عالم أحمق مجنون، وأن المنطقة على صفيح ساخن، بل داخل مفاعل نووى ملتهب شبيه بتشرنوبيل، الذى افتقد بوصلة الضبط وترمومتر الإيقاف، العقل غائب، والصراعات السياسية الدينية الطائفية كلها تجرى على أرض العراق التى صارت جرحاً كربلائياً مزمناً ونازفاً، «ترامب» يضرب «سليمانى» فى العراق، وإيران ترد فى العراق، والضحايا شعب العراق، هل بغداد ما زالت بغداد التى قال فيها «نزار»:
«مدى بساطى واملئى أكوابى وانسى العتاب فقد نسيت عتابى
عيناكِ، يا بغدادُ، منذُ طفولَتى شَمسانِ نائمَتانِ فى أهدابى
لا تُنكرى وجهى، فأنت حَبيبَتى وورودُ مائدَتى وكأسُ شرابى
بغدادُ.. جئتُكِ كالسّفينةِ مُتعَباً أخفى جِراحاتى وراءَ ثيابى
ورميتُ رأسى فوقَ صدرِ أميرَتى وتلاقتِ الشّفَتانُ بعدَ غيابِ
أنا ذلكَ البَحّارُ يُنفِقُ عمرهُ فى البحثِ عن حبٍّ وعن أحبابِ»؟!
أم صارت بغداد التى قتلت فيها بلقيس، فنعاها «نزار»، قائلاً:
شكراً لكم/ فحبيبتى قتلت وصار بوسعكم/ أن تشربوا كأساً على قبر الشّهيدة/ وقصيدتى اغتيلت/ وهل من أمّـةٍ فى الأرض/ إلّا نحن تغتال القصيدة؟/ بلقيس/ كانت أجمل الملكات فى تاريخ بابل/ بلقيس/ كانت أطول النّخلات فى أرض العراق/ كانت إذا تمشى ترافقها طواويسٌ/ وتتبعها أيائل/ بلقيس يا وجعى/ ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل/ هل يا ترى/ من بعد شعرك سوف ترتفع السنابل؟/ يا نينوى الخضراء/ يا غجريّتى الشقراء/ يا أمواج دجلة/ تلبس فى الرّبيع بساقها/ أحلى الخلاخل/ قتلوك يا بلقيس/ أيّة أمةٍ عربيّةٍ/ تلك الّتى/ تغتال أصوات البلابل؟/ أين السموأل؟/ والمهلهل؟/ والغطاريف الأوائل؟/ فقبائلٌ أكلت قبائل/ وثعالبٌ قتلت ثعالب/ وعناكبٌ قتلت عناكب.
العراق تبكى وتنزف وتصرخ وتدفع فاتورة هوس دينى وضباب سياسى، وثروة تغرى غدة لعاب مصاصى الدماء من الخارج والداخل، صار حزنها كالقدر الإغريقى الذى لا فرار منه إلا إليه.