بقلم - عـــلاء ثابت
أهم وأنجح الاستثمارات وأكثرها ديمومة هى بناء الإنسان المنتج والواعى والمبدع، والارتكاز على هذا النوع من الاستثمار هو القادر على بناء دولة قوية ومجتمع متماسك وممتلك لمقومات البقاء والمساهمة فى ارتقاء وطنه بل والحضارة الإنسانية، فالجدوى الاقتصادية من رفع مستويات تعليم وصحة ووعى وثقافة المواطنين يفوق عائدها أى نوع آخر من الاستثمار، بل لا يمكن أن ينجح أى نوع آخر من الاستثمارات الصناعية أو الزراعية أو الخدمية إلا بكوادر بشرية مؤهلة بتعليم جيد وتتمتع برعاية صحية تجعلها أكثر قدرة على العمل والتحسين المستمر للإنتاج. فالصناعة والزراعة فى تطور مستمر، وبوتيرة عالية تفوق أى وقت مضى، وكذلك أصبح قطاع الخدمات من أهم القطاعات التى تدر عوائد كبيرة، وكلها تقوم على الإنسان الممتلك لمقومات من المعرفة الواسعة، والساعى إلى التعلم المستمر، وبالتالى فإن الاستثمار فى الإنسان هو العمود الفقرى لمشروع التنمية الشاملة، ودونه لا تستطيع الدولة أن تتفوق فى أى مجال، ومفهوم التنمية الشاملة الذى يقوم على بناء الإنسان هو الهدف المقبل للمشروع الوطنى الذى أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى ختام فعاليات المؤتمر السادس للشباب يوم الأحد الماضى من فوق منبر جامعة القاهرة، وقد جاء اختيار منبر جامعة القاهرة في إشارة مهمة إلى أن هذا المشروع الوطنى يقوم على العلم بالدرجة الأولى وبأيدى شباب مصر الذين هم ذخيرتها وثروتها التى يجب أن تصان وأن تكون محور المشروع الوطنى وأداته فى الوقت نفسه.
لم يتحدث الرئيس فقط عن خطط تطوير التعليم التى انطلقت إلى مرحلة التنفيذ، وإنما تحدث عن أمر لا يقل أهمية وهو اهتمام المدارس والجامعات بالأنشطة الثقافية والرياضية، لتصبح المدارس والجامعات مراكز تعليم ووعى وشراكة مجتمعية، وأن يعتاد الطلاب المبادرة الخلاقة، والاطلاع على مختلف التجارب والأفكار، وهذا ما يحصنهم ضد الأفكار المتصلبة والجامدة التى كانت تستغلها الجماعات التكفيرية، فالثقافة والانفتاح الفكرى وممارسة الأنشطة الفنية هى الأمصال الحقيقية التى تحمينا من الفكر المنحرف، وعلينا أن نثق فى شبابنا الطامح إلى المعرفة الواسعة، ونمنحهم الدعم المعنوى والمادي، خصوصا بعد أن استطاعت مصر هزيمة الإرهاب ومشروعه التدميرى الذى كان يقوم على تحويل شبابنا من قوة للبناء إلى قوة للتدمير، لكن ذلك الشباب بوعيه وعلمه وتحضره سيكون عصيا على أن تستغله أى جهات أو دول ليخربوا أوطانهم، فالجهلة ومحدودو المعرفة ومن اعتادوا تعطيل العقل هم الأداة السهلة للتخريب والتدمير، أما العقول النيرة والمبدعة والمنفتحة فهى التى لا يمكن لها أن تخرب، بل تبنى وتعمر وترتقى بالمجتمع والدولة.
إن بعض قيادات وزارة التعليم العالى قد أهملت الأنشطة الثقافية والفنية، ربما لأنها تخشى أن يسيء البعض استخدام هذه المساحة من الحرية والأنشطة، فتؤثر السلامة وتغلق أبوابا قد تأتى لها ببعض المشكلات، إن هذا الانغلاق وهذا التقييد يأتيان بالشرور، فإغلاق الأبواب ليس الطريق إلى الأمان، بل فتح أبواب الأمل والنشاط المبدع هو المناخ الذى لا تنمو فيه الأفكار المعتمة والضارة والمدمرة، وربما تحدث أخطاء أو ثغرة هنا أو هناك، ونتعلم كيف يمكن تصويبها بالتجربة والتفاعل والاحتواء.
إن شباب مصر لا يمكن أن يقبل بسلوكيات وأفكار تستهدف أمن بلده ومستقبله، وهو القادر وصاحب المصلحة الأولى فى أن يكون مسلحا بالعلم والثقافة والمهارة، وأن تصبح جامعاتنا منارات فكرية تنشر نور المعرفة والخير والجمال، ومن مصلحته أن يكون مجتمعه منظما ونظيفا، سواء من القمامة التى تملأ شوارعنا، أو الفساد الذى يستغل غياب الوعى والتماسك الاجتماعى وضعف الانتماء، ليشارك الإرهاب فى التخريب والتدمير.
إن على الجامعات المصرية مهام أساسية فى بناء الشباب المصري، خاصة مع التوسع الكبير فى إنشاء جامعات عصرية بأدوات وأبنية تسهل وتطور التعليم إلى جانب الأنشطة التى ستصبح الحاضنة الأساسية للإبداع ونشر الثقافة والفنون، لتحقق الانطلاقة التى نصبو إليها جميعا، ولهذا نحتاج إلى جهود مجتمعية تساعد القيادات الجامعية على القيام بمهامها، فجامعة القاهرة التى اختارها الرئيس لإعلان انطلاق المشروع الوطنى لبناء الإنسان قد بنيت بالجهود الذاتية وتبرعات الخيرين الوطنيين القادرين والراغبين فى الارتقاء بمجتمعهم، وعلينا أن نستعيد تلك الروح الوطنية النبيلة والخيرة، وأن نرى بناء جامعات أخرى بالجهود الذاتية، أو يتم تزويدها بما تحتاج من معامل ومكتبات ومسارح ومراكز تدريب وأنشطة، علينا أن نستخرج ذلك المخزون الحضارى، وأن ننفض عنه غبار الأنانية، ونعيد إليه بريقه الذى سيشعل أنوار العلوم والفنون والثقافة والتحضر، لقد كنا مركزا حضاريا عظيما، ويمكن أن نستعيد دورنا بتلك الروح الخلاقة فى ظل مجتمع متعاضد ومتماسك ومتكامل، وعندما يرى الشعب أن ضوءا ينبعث من جامعاتنا فإن عزيمته ستكون أقوى لاستكمال المشوار، والمضى فى طريق البناء والمعرفة.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع