بقلم : جلال عارف
من الذكريات التي رواها الموسيقار محمد عبدالوهاب، انه كان في بداياته يعيش حياة منطلقة وشديدة التنوع والثراء. يرافق أمير الشعراء شوقي ويحظي برعايته.. ثم يتسلل مع شاعر الشباب أحمد رامي ليعيش معه بوهيمية الفنان. وفي النهاية »يرتمي تحت قدمي الشيخ علي محمود» علي حد تعبير عبدالوهاب.. حيث صفاء الروح، واستاذية الفن، والتمكن من علوم القرآن، والمعرفة الكاملة بأسرار الموسيقي العربية، والقدرة علي أن يجعل من ابتهالاته وانشاده الديني إبداعا لا يقارن.
لم يكن عبدالوهاب وحده، بل كان الجميع يسعون إلي مجلس الشيخ صاحب الموهبة الفذة. من بطانته خرج الشيخ زكريا أحمد، وعلي يديه تعلم الكثيرون أصول الموسيقي، وعلي دربه سار تلاميذه ليصبحوا أعلام الانشاد الديني بعده وعلي رأسهم الشيخ طه الفشني والشيخ محمد الفيومي.
لحقنا بالفشني والفيومي. أما الرائد علي محمود فكانت تسجيلاته القليلة- ومازالت- دروسا في الابداع، ومازال التسجيل الذي تركه للأذان فريدا في نوعه.
ثم كان هناك موعد مع جيل آخر جاء مع انتشار التليفزيون، وبلغ الانشاد الديني والابتهالات معه ذروة جديدة، وكان مولانا النقشبندي هو التجلي الرائع لهذا الجيل. سمعت عنه وهو مازال في طنطا يدوي صوته القوي الجميل في رحاب السيد البدوي فتصل اصداؤه إلي العاصمة، ويأتي لتنفتح أمامه أبواب الاذاعة والتليفزيون، ولينطلق كالشهاب ويرحل سريعا بعد سنوات قليلة أعطي فيها ما ينير القلوب حتي الآن من ابتهالات وأغان دينية مازالت تلون أيامنا وليالينا- خاصة في رمضان بعطر الإيمان الجميل.
وبجوار النقشبندي كانت هناك قامة فارعة لأحد أعلام الانشاد الديني. كان الشيخ نصر الدين طوبار يمثل مدرسة أخري في الانشاد، وكان مزهلا في قدراته الصوتية وعلمه بفنون الأداء وصوته الرائع الخاشع. وعلي طريقه جاء الشيخ محمد عمران ليكون آخر هذا العنقود البديع.
بعد ذلك قل الاهتمام بهذا الفن الراقي من جانب الاذاعة والتليفزيون، ومن جانب الهيئات الرسمية. وإن بقي في الموالد وحلقات الصوفية، وظل يفرز نجوما مثل التهامي.
لكن في المقابل.. كانت الجهامة تزحف لتمهد الطريق للتطرف.. وكانت أًصوات تحريم الموسيقي تأتي مع عاصفة الصحراء الثقافية التي حاولت فرض أفكار الوهابية بجوار الافكار القطبية لتقود العالم العربي إلي خطر الانزلاق إلي جهالة العصور الوسطي.
وفي ظل ذلك كانت دولة التلاوة المصرية للقرآن الكريم تحاصر وكانت الموسيقي وكل الفنون عندنا في حالة تراجع. وكنا نستمع لتسجيلات الشيخ علي محمود، والنقشبندي وطوبار والفشني، وننتظر عودة جميلة.. وأكيدة
نقلًا عن الآخبار القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع