بقلم - جلال عارف
يا سبحان الله.. من أين جاء كل هذا الثراء الذي أحاط بنا ونحن نستقبل الحياة في ظروف لم تكن سهلة علي الإطلاق؟ ومن أين جاء كل هذا الجمال الذي كان يعطر الهواء حولنا، ويفتح الطريق أمامنا لكي نفهم صحيح الدين، ونسير في دروب العلم والمعرفة، وننهل من ينابيع الثقافة والفن؟!
يأتينا صوت الشيخ رفعت في الشهر الكريم، فندرك أنه وكأنه في دولة التلاوة مثل قدر الشهر الفضيل بين باقي شهور السنة. كان هذا الصوت الملائكي قد رحل عن دنيانا، ولم يترك وراءه إلا القليل من التسجيلات التي تمت قبل التقدم التكنولوجي الكبير الذي حدث في هندسة الإذاعة وامكانيات التسجيل.. ومع ذلك ظل هذا الصوت النادر هو الأروع والأصدق وهو يتلو آيات الذكر الحكيم.. وظل صوته وهو يؤذن للمغرب في رمضان كأنه جائزة إضافية للمؤمنين الصائمين.
كان الشيخ رفعت قد رحل عن عالمنا، لكنه ترك وراءه جيلا من المقرئين العظام. كان كل منهم شخصيته المميزة، لكنهم جميعا كانوا ممثلين رائعين لمدرسة التلاوة المصرية المتفردة. كلهم نهلوا من علوم القرآن، وامتلكوا الموهبة والصوت الجميل والقدرة الفذة علي أن يلامسوا قلوب الناس وعقولهم بآيات الذكر الحكيم.
في جيل واحد كان هناك مصطفي إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، وزاهر، والمنشاوي، وشعيشع، والشعشاعي، والدمنهوري، والبهتيمي، والحصري.. ليلحق بهم بعد ذلك الطبلاوي ونعينع وآخرون. كانوا يقرأون في الإذاعة وفق جدول يعرف المستمعون مواعيده وينتظرونها. في رمضان كان هناك موعد مع الأجمل.. إذاعة يومية علي الهواء بعد العشاء تستغرق حوالي ساعة من السرادق الذي كان يقام في عابدين، ثم بعد ذلك في الحسين. تلاوات نادرة يبدع فيها كبار المقرئين، ويصبحون في أفضل حالاتهم وهم وسط الجمهور الملم بأسرار الجمال في تلاوتهم.
كان ذلك قبل أن تداهمنا عاصفة الصحراء المسمومة منذ السبعينيات، وتحاصرنا بفكرها المتشدد وأدواتها البائسة. تحاول ان تغتال كل شيء جميل في حياتنا. وفي ظل هذه الهجمة كانت المحاولات المستميتة لفرض تلاوات غريبة علي المدرسة المصرية التي لا مثيل لروعتها في التلاوة. كنا قبل ذلك نسمع أحيانا مثل هذه التلاوات في المقابر، فأصبحت - بسلاح المال - تغزو الإذاعات، وتنتشر في التاكسي والميكروباص، وتفرض علي الناس في مساجد استولي عليها التطرف وحكمها المتشددون.
سأعود - إن شاء الله - للحديث عن سلاطين دولة التلاوة في مصر الحديثة، لكن ما نتوقف عنده اليوم هو السؤال: أين نحن من هؤلاء؟ وكيف نستعيد هذا السحر الخاص الذي أبدعته مدرسة التلاوة عندنا!.. كيف .. ومتي ؟
نقلا عن الاخبار القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع