بقلم : راجح الخوري
تبدو الدولة اللبنانية أشبه بحطام سياسي متهالك، يوازي في انهياره وتداعيه ذلك الحطام الأسطوري المأساوي الذي ينتصب دماراً مخيفاً، في إهراءات مرفأ بيروت، الذي تعرض قبل 12 شهراً لأكبر انفجار بعد نوويات هيروشيما وناغازاكي. ولكن رغم كل المساعي الفرنسية ومبادرة الرئيس إيمانويل ماكرون، تعذّر تشكيل حكومة لمدة 13 شهراً، كما تعذّر أيضاً القيام بتحقيق قضائي مسؤول وجاد، في ذلك الانفجار الذي دمّر المرفأ والعاصمة وجرح روح لبنان.
وعندما شكّل الرئيس نجيب ميقاتي حكومته قبل أسابيع قليلة، ذهب به التفاؤل الحماسي إلى حد تسميتها حكومة «معاً للإنقاذ»، بينما كانت المناكفات السياسية والحزبية التي سبقت ورافقت حصولها على ثقة السلطة التشريعية عابقة بالخلافات وأيضاً برائحة المازوت الإيراني، الذي يستجلبه «حزب الله»، تأكيداً عملياً في نظر الكثيرين للقول إنه هو من بات يقرر في المازوت كما في السياسة والسلطة، من انتخاب الرئيس إلى تشكيل الحكومات.
على خلفية هذا الواقع المؤسف، كان عقل الدولة المحطمة في مكان وكانت المعالم المتصاعدة للانفجار الذي يتهدد الآن بإعادة لبنان إلى الفتنة الأهلية في مكان آخر، وهكذا بعدما دعا «حزب الله» صراحةً وعلناً إلى قبع طارق بيطار، وهو القاضي العدلي الثاني المكلف التحقيق في جريمة المرفأ، متهماً إياه بالتسييس والاستنسابية، دعا إلى تنظيم مسيرة احتجاجية إلى أمام قصر العدل، تَحوّل قسم منها محاولة لاقتحام منطقة عين الرمانة، فكانت أحداث الخميس الماضي الدامية والمؤسفة في منطقة التحويطة ومحيطها، والتي لطالما كانت ساحة مواجهات على امتداد الحرب اللبنانية، وسقط سبع ضحايا وأكثر من 30 جريحاً من حركة «أمل» و«حزب الله»، وسبعة جرحى في عين الرمانة إضافةً إلى تكسير وتحطيم المتظاهرين المقتحمين أحد الشوارع.
كانت حكومة «معاً للإنقاذ» قد تحولت عشية اشتباكات الطيونة حكومة «معاً للملاكمة»، بعدما دعا المكوّن الشيعي فيها إلى عزل القاضي بيطار عن تحقيق المرفأ، بعدما كان قد أُزيح سلفه القاضي فادي صوّان، رغم أنه ليس من صلاحية السلطة التنفيذية التدخل في شؤون السلطة القضائية وفقاً للدستور، وهكذا دخل لبنان معادلة تعطيلية واضحة، عندما وضع «حزب الله» الدولة والعهد أمام خيار: إما الحكومة وإما القاضي بيطار، الذي رفضت المراجع القضائية كفّ يده، ورفض هو أن يتنحى.
بعد خطاب حسن نصر الله يوم الثلاثاء الماضي، باتت الدولة الهشيم أمام معادلات جديدة وخطرة؛ أولاً رغم تأكيد وزير الدفاع موريس سليم أن ما حصل يوم الخميس في الطيونية ليس كميناً بل حادث مشؤوم، وأن ظروف حصول الحادث يبقى تحديدها للتحقيق الذي يعتمد على الوقائع والإثباتات التي تحدد المسؤوليات، وثانياً رغم بيان الجيش اللبناني عن أنه يحقق مع جندي ظهر في فيلم أنه أول من أطلق النار ولكن لصد المقتحمين الذين دخلوا شارع عين الرمانة صارخين «شيعة – شيعة» ومحطمين السيارات والمتاجر، رغم أن الجيش كان قد أصدر بياناً بأنه سيطلق النار على كل مسلح في الشارع، وثالثاً رغم أنه لم يثبت وجود قناصة كما استعجل وقال وزير الداخلية بسام مولوي، فإن نصر الله بعد تصريحات نوابه ذهب بعيداً في الاتهامات والتصعيد:
فقد اتهم الحكومة والجيش اللبناني حتى بتغيير البيانات عمّا جرى الخميس «نتيجة تدخلات أميركية»، ورغم قوله إن الدولة اللبنانية تبقى المرجعية، فإنه أملى عليها ما يريدها أن تفعل، كأنه تسارع أولاً إلى التحقيق السريع في أحدات الطيونية وإنزال العقاب الصارم بالمتهمين، الذين ويا للغرابة حددهم هو سلفاً، متهماً «القوات اللبنانية» ورئيسها الدكتور سمير جعجع، فلماذا الدولة ولماذا التحقيق، إذا كان هو من يصدر الأحكام ويحدد الاتهام سلفاً، رغم أن الأحداث كانت أشبه بفيلم طويل شاهده العالم على الشاشات وبيّن أن الهجمات وزخ الرصاص والقذائف كان من ناحية الشياح؟ ولماذا بيانات الجيش وتصريحات وزير الدفاع؟ وما معنى حديثه عن أن الدولة هي المرجعية وأن على القضاء أن يقوم بواجباته سريعاً، وهو الذي يسعى إلى وقف وشلّ التحقيق في جريمة المرفأ، بما يوازي عملياً نسف السلطة القضائية وشلّ عملها، وأي دولة من دون سلطة قضائية تصبح ساحة للفوضى والفلتان؟
ما لا يصدَّق أن نصر الله قال إنه هو الذي حمى ويحمي لبنان والمسيحيين في لبنان، ولكأن تاريخ لبنان ومسيحييه من النسيان أو من الذعر، خصوصاً عندما لوّح بأنه يملك جيشاً من 100 ألف مقاتل، في محاولة لا تثير الذعر بمقدار ما تثير التساؤل:
أولاً - هل بات «حزب الله» محشوراً انطلاقاً من ارتفاع حشرة النظام الإيراني الذي يقول علناً إنه جندي فيه، والذي يواجه الآن حشرة خانقة في العراق، الذي لطالما عدّه حديقته الخلفية، فجاءت الانتخابات الأخيرة كاسحة ضده؟
ثانياً - هل بات محشوراً في سوريا التي يُعمل أميركياً وروسياً وأردنياً ومصرياً وعربياً، لاقتلاع إيران منها، وقد بات واضحاً أن القصف الإسرائيلي اليومي الذي يستهدف مواقعها بما فيها من وجود لـ«حزب الله»، يتم بتنسيق وثيق مع روسيا؟
ثالثاً - هل بات محشوراً نتيجة حشرة النظام الإيراني في أفغانستان بعد انسحاب أميركا، واستطراداً في أذربيحان حيث أجرت إيران مناورات على الحدود معها قائلة إن إسرائيل تدعم الجيش الأذربيجاني، وهو ما دعا الرئيس إلهام علييف إلى توجيه تحذير قاسٍ إلى المرشد علي خامنئي الأسبوع الماضي؟
رابعاً - هل بات محشوراً بإزاء حدة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي تواجه النظام الإيراني، وتثير الاضطرابات في بعض مناطقه؟
خامساً - هل بات محشوراً بموازاة حشرة طهران التي يبدو أنها لن تحصل على ما تريد في مفاوضات فيينا؟
سادساً وهو الأهم هل بات محشوراً عشية الانتخابات داخل البيئة الشيعية مع ارتفاع الأصوات المعارضة له كما هو واضح؟
إذاً ما معنى التلويح بأن عنده 100 ألف جندي مدربين وجاهزين، «وأقعدوا عاقلين» مع سمير جعجع أيها المسيحيون واللبنانيون طبعاً؟ وكيف تكون الدولة هي المرجعية كما قال نصر الله، عندما يفرض هو أن تكون حكومتها معطّلة، ما لم تقبع القاضي بيطار، وبهذا تقبع سلطة القضاء كله وتلغي نفسها؟ وكيف يريد من القضاء أن يحكم سريعاً في أحداث الخميس المؤسفة، في حين على القضاء أن ينفّذ ما يطلبه حيال مسار التحقيق في انفجار المرفأ الذي وقع قبل 13 شهراً؟
وحيال كل هذا، كيف لدولة النعامة والحطام أن تصدّق أن صندوق النقد الدولي والدول المانحة ستقدم الدعم والمساعدة لبلد يراد لسلطة القضاء فيه أن تصبح قضاءً وقدراً، وأنها عند أوامر «حزب الله» الذي يلوّح بـ100 ألف جندي، ويقول: «أقعدوا عاقلين» فيسمعه الجميع، قوات لبنانية ومسيحيين ومسلمين وجيشاً وقوى أمنية ودولاً مانحة أيضاً؟