بقلم : راجح الخوري
خلاصة كل هذه الأزمة الخانقة وغير المسبوقة في تاريخ لبنان، الكلمات المخلصة والواقعية والمعبرة جداً، التي قالها وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان: «إن الأزمة ليست بين المملكة ودول الخليج العربي وبين لبنان، إنما هي أزمة داخل لبنان بسبب هيمنة وكلاء إيران».
عملياً ليس خافياً على أحد أن هذه الأزمة التي تتغول بين المكونات اللبنانية، هي نتيجة عملية للأزمة المتصاعدة عبر التداعي المتصاعد للدولة اللبنانية، الساكتة والقاصرة والمتعامية عن سعي «حزب الله» لسلخها عن هويتها، والعمل على إلحاقها بما يسمى «محور الممانعة»، الذي توظّفه إيران لفرض محاولات هيمنتها الإقليمية معلنة صراحة ومراراً، أنها باتت تسيطر على بيروت وثلاث عواصم عربية؛ هي بغداد ودمشق وصنعاء، وأنها تملك جيشاً عابراً للحدود في هذه الدول الأربع.
ليست الأزمة الكبيرة مسألة تصريح همايوني عائم وهامشي لوزير إعلام، يفترض أنه يعرف حقائق ووقائع الإدارة الإيرانية للانقلاب على الشرعية اليمنية، ثم رعاية طهران الحرب الحوثية على اليمنيين تدريباً وتمويلاً وتسليحاً، بهدف غرز سكين مسموم في ظهر السعودية ودول الخليج. إن حل هذه الأزمة عملياً ليس في استقالة وزير أو حتى وزيرين بعد التصريحات المعيبة والمخجلة لوزير الخارجية عبد الله بو حبيب الذي يفترض أن يتحلى بصفات الدبلوماسية، فإذا به لا علاقة له بمقومات الحنكة واللياقة؛ أولاً عندما رأس ما سُمي «خلية أزمة» اجتمعت وسط جو غريب من الحبور والبشاشة وانتهى اجتماعها بقوله إن الأزمة أكبر منهم ومن لبنان، وإن قناعته بـ«أن تفاهماً إيرانياً أميركياً أو اتفاقاً سعودياً إيرانياً يساعد على حل الأزمة فنحن وحدنا لا نستطيع»، كل هذا في وقت بات من الواضح فيه أن الحل الفعلي للأزمة يتطلب أن تعود الدولة اللبنانية عن استقالتها الكاملة تقريباً أمام هيمنة «حزب الله»!
لكن الدولة اللبنانية تبدو طرشاء وعمياء ومغلوبة على أمرها، فلا يرتفع فيها موقف أو صوت يرد على هذا، في حين ترتفع الآن أصوات وشعارات تتحدث عن «العزة والكرامة الوطنية»، رداً على المطالبة باستقالة وزير الإعلام، لمجرد أن «حزب الله» يرفض استقالته ويهدد باستقالة وزرائه هو في الحكومة، معتبراً أن تصريح الهرطقة والهامشية الضحلة لوزير الإعلام عن حرب اليمن، التي تخوضها إيران بالحوثيين ودماء اليمنيين، يمثل «عزة وبطولة»!
في هذا السياق، تحول لبنان منذ زمن إلى مربض للقصف بالاتهامات والافتراءات والتخوين ضد المملكة العربية السعودية والدول الخليجية، مباشرة من «حزب الله»، الذي كان يشارك في الحكومات والسلطات اللبنانية الرسمية، وبات من الواضح اليوم أنه هو صاحب الكلمة النافذة في تشكيل هذه الحكومات، مع بداية عهد الرئيس ميشال عون حليفه في «تفاهم مارمخايل».
وليس خافياً أن حسن نصر الله دأب على توجيه الاتهامات ومهاجمة السعودية والتحالف الخليجي المدافع عن الشرعية اليمنية في وجه الانقلاب الحوثي المتدحرج الذي تسلحه وتدربه وتديره إيران، وفي هذا السياق من المعرف أن «حزب الله» يدعم الحوثيين بالخبراء العسكريين والمقاتلين الذين يدربهم في الضاحية الجنوبية والبقاع، ويدير لهم في معاقله محطتي تلفزيون هما «المسيرة» و«الساحات»، إضافة إلى انخراطه في القتال في كل الميادين التي تنخرط فيها إيران في تدخلاتها الإقليمية، وهكذا بقي شعار «النأي بالنفس» الذي حاولت الدولة اللبنانية عبثاً قبل أعوام، أن تجعل منه مخرجاً لتحييد البلد عن الصراعات الإقليمية المحتدمة، مجرد كلمتين بلا معنى.
في يناير (كانون الثاني) من عام 2017، وصل عون في زيارته الخارجية الأولى بعد انتخابه، إلى السعودية يرافقه صهره جبران باسيل وزير الخارجية يومها، الذي التقى نظيره عادل الجبير، وسمع منه كلاماً واضحاً: «نحن لا نريد منكم شيئاً، ساعدناكم ووقفنا إلى جانبكم دائماً وبطيبة خاطر ومستمرون في ذلك، لكن نحن نشدد على تطبيق الشعار الذي اخترتموه أنتم أي (النأي بالنفس) حكومة ورئاسة على الأقل، عن الانخراط في الصراع الإقليمي بين المملكة وإيران، التي تمضي في تصدير الثورة إلى البلاد العربية وتصاعد هذا بعد حرب اليمن، إن النأي بالنفس مهم لنا ونتمنى أن تلتزموا به».
يومها قيل إن الاجتماع انتهى بتفاهم كبير، لكن مسار السياسات اللبنانية، سواء على المستوى الرئاسي الرسمي أو على مستوى الحكومات التي يشارك فيها «حزب الله» مزّق شعار النأي بالنفس وفاقم منذ أعوام الافتئات وتوجيه الاتهامات إلى المملكة ودول الخليج.
ليست القصة قصة تصريح عائم عن حرب اليمن لوزير الإعلام، في حكومة معروف ممن وكيف تشكلت، ثم تلته تلك التصريحات الأسوأ والأشنع لوزير الخارجية عبد الله بو حبيب، الذي بدا وكأنه يصل من كوكب آخر، عندما قال إن لبنان لا يفهم أسباب «قساوة السعودية»، التي قطعت علاقاتها هي ودول الخليج مع لبنان، مع أن كل القسوة وكل تاريخ التهديدات والاتهامات تنطلق من لبنان، ويدأب «حزب الله» على إطلاقها، في محاولة واضحة وحتى معلنة، وهي السعي لإلحاق البلد بمحور إيران والممانعة، ومعروف أن «حزب الله» هو الذي شكّل عملياً هذه الحكومة بعد 13 شهراً من افتعال الفراغ، ثم عطّلها بهدف تعطيل السلطة القضائية، وواضح عملياً وفي العمق أن المشكلة هي فعلاً في لبنان، وتكمن تحديداً في أن «الدويلة» اللبنانية باتت تذوب في دولة «حزب الله»، وبعد كل ما جرى ويجري صارت سياسات الدولة اللبنانية داخلياً وخارجياً، أشبه برمانة محشوة بالكبتاغون المسموم الموجه إلى المملكة ودول الخليج.
وعلى خلفية تاريخ من قصور الدولة اللبنانية وصمتها العاجز عن تجاوزات «حزب الله» وانخراطه في معارك إيران وتدخلاتها في الدول الخليجية وتحامله الدائم على السعودية، لم يكن مفاجئاً ولا مستغرباً أن يقول وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان «إن المملكة لم تعد ترى أي جدوى من التعامل مع لبنان في ظل هيمنة وكلاء إيران، وإن الأزمة ليست بين السعودية ولبنان بل داخل لبنان نفسه»، وكل هذا ليس خافياً طبعاً قياساً بمسلسل الأزمات المتناسخة في سلطاته القضائية والتنفيذية والتشريعية!
لكن ثالثة الأثافي أن الدولة الفاشلة تعالج أزمة لبنان المصيرية مع الدول الخليجية بالترقيع الهامشي المضحك - المبكي، من تشكيل «خلية الأزمة» أو بالأحرى مفاقمة التأزيم، إلى توسيط أميركا وفرنسا وربما دول العالم، بالتدخل مع دول الخليج لحل الأزمة، ولكأن إيران و«حزب الله» سيقبلان بوساطة أميركية وحتى فرنسية، أو لكأن هذا التوجه بالتحديد لا يشكل إهانة إلى دول الخليج، التي باتت ترى لبنان أشبه بولاية إيرانية كما يعلن النظام الإيراني تكراراً.
بدت تصريحات الوزير بوحبيب مجموعة من الهرطقات غير المسؤولة والمسيئة وحتى الجاهلة، وعندما حاول نفيها كانت وكالة الصحافة الفرنسية تملك تسجيلاً لها، أما الزميلة صحيفة «عكاظ» فقد أذاعت تسجيلاً واضحاً لها، بوحبيب يقول إن المشاكل بين الدول الشقيقة لا يمكن حلها إلا بالحوار وليس بإرادة الفرض، ولكأن دول الخليج تحاول أن تفرض على لبنان سوى أن يكون سيد نفسه، وطناً حراً ومستقلاً وبعيداً عن هيمنة إيران و«حزب الله»، أما عندما يكمل بوحبيب الاعتراف الواضح بأن «كل ما يخص تدخلات الحزب في الإقليم وفي أي ساحات خارجية هو قضية تتجاوز قدرة لبنان»، يتساءل الكثيرون إذاً لماذا لبنان وماذا بقي منه، وهل كثير القول إن الرياض لم تعد ترى جدوى من التعامل معه؟
وليد جنبلاط وصف تصريح وزير الإعلام المسيء عن اليمن بأنه «كلام همايوني»، داعياً إلى إقالته، لكن كلام زميله «الدبلوماسي جداً» وزير الخارجية، جاء مفرطاً في التجني والهمايونية، عندما بدا وكأنه يتعمد أو لا ينتبه إلى أنه يصب الزيت على النار، فاستعمل منطق بارونات المخدرات في كولومبيا مثلاً، عندما صوّر لبنان بلداً مهرباً للمخدرات، مبرراً تهريبها إلى السعودية بقوله «إنها سوق للمخدرات، وهذا الدافع الرئيسي وراء التهريب، لا تجار المخدرات في بيروت وضواحيها» فيا للهول والأغرب أنه أنكر تاريخاً طويلاً من المساعدات السعودية والخليجية قدمت للبنان، خصوصاً في مؤتمرات الدعم وبعد عدواني «عناقيد الغضب» و«يوم الحساب» المدمرين، ولم يتورع عن القول: «إنهم يريدون رأس (حزب الله) ونحن لا نستطع أن نعطيهم إياه»، بينما كل المطلوب هو أن يستعيد لبنان رأسه وعقله وسيادته من السيطرة المتزايدة لإيران و«حزب الله».