بقلم: راجح الخوري
اختار البطريرك الماروني بشارة الراعي، يوم السبت الماضي، ألا يضع، ولو كرسياً واحداً، لسياسي أو حزبي من أي طائفة كانت، في مقدم الحشد الشعبي الذي صعد إلى بكركي، تحت شعار غير معلن طبعاً، ولكنه يمكن أن يشكّل إجماعاً، عنوانه «لبيك حياد لبنان».
لكن لبنان صار في قلب الجحيم، خصوصاً عندما بدا ليل الأربعاء الماضي أنه كتلة من نار الغضب تشتعل من الناقورة إلى النهار الكبير، بما في ذلك معاقل «حزب الله»، في صور والنبطية وكفررمان وكل طرقات الجنوب، بعدما وصل سعر الدولار إلى عشرة آلاف ليرة، ويمكن، وفق ما يقول خبراء الاقتصاد، أن يصل إلى مائة ألف ليرة، تماماً كما وصل إليه التومان الإيراني، إذا بقي لبنان رهينة فكي الكماشة التي حذر منها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قال إن لبنان واقع بين الفساد والإرهاب!
ورغم أن البطريرك الراعي حرص على عدم تجيير مهرجان بكركي لأي جهة سياسية وحزبية، بل جعله محطة بارزة في سعيه لخلاص لبنان، وقد دأب على تكرار الدعوة إلى إعلان حياده وعقد مؤتمر دولي لتكريس هذا الحياد الإيجابي، الذي يحرص على القول إنه يأتي ملتزماً الدستور، في تأكيد أن لبنان بلد عربي يلتزم القضايا العربية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، رغم كل هذا تعرض البطريرك ودعوته إلى المؤتمر الدولي إلى حملة من «حزب الله» وصلت، على لسان المفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان، إلى حد اتهام البطريرك بالخيانة، لمجرد أنه يدعو إلى عقد مؤتمر دولي لإنقاذ لبنان!
بدا الأمر مزعجاً، لا بل مؤسفاً، وخصوصاً أن لبنان وكذلك «حزب الله» غارقان في التدويل منذ زمن بعيد، وليس المقصود هنا «التدويل الصراعي»، عبر محاولات طهران والحزب جرّ لبنان إلى قاطرة ما يُسمى «محور الممانعة»، وهذا طبعاً تدويل بطعم فارسي، بل المقصود عملياً أن «حزب الله» غاطس في التدويل الغربي والأممي، من زمن بعيد، وهو ما يجب أن يتذكره قبلان طبعاً قبل توجيه الاتهامات بالخيانة. ولعل آخر مشاركة من الحزب في التدويل كانت إرسال نوابه إلى اجتماع قصر الصنوبر الذي ترأسه الرئيس ماكرون، في السادس من أغسطس (آب) الماضي، بعد انفجار المرفأ، وموافقة الحزب على «المبادرة الفرنسية» التي كانت وُضعت بالتفاهم ضمناً مع أميركا والأمم المتحدة، والتي دعت إلى تشكيل «حكومة مهمة إصلاحية» من الاختصاصيين، تحاول انتشال لبنان من أزمته المدمرة.
وبالتأكيد نسي الذين ينتقدون التدويل والحياد الإيجابي اللبناني الذي يدعو إليه الراعي، أنهم شركاء ناشطون في كل المساعي لزج «صندوق النقد الدولي» في إنقاذ التفليسة اللبنانية، وأنهم عندما يطالبون بدعم الدول المانحة يكونون من دعاة التدويل، ولا تدويل بلا حياد مُعلَن على رؤوس الأشهاد، كما يقال، ولست أدري مثلاً: لماذا ينسى «حزب الله» وقبلان كلام الإمام موسى الصدر مثلاً، الذي قال بالحرف: «إذا لن نتمكن من تحييد لبنان، فلن نحرر شبراً من فلسطين، وسنخسر وطننا ونتحول لاجئين».
ولماذا ينسون أيضاً أنهم شكّلوا وفداً في 13 يوليو (تموز) من عام 2007 شارك في الحوار برعاية الفرنسيين ووزير خارجيتهم برنار كوشنير في «سان كلو»، حيث يقال إنهم فاتحوا الحضور للمرة الأولى بمطالبتهم بما يسمى المثالثة خروجاً أو نسفاً للدستور و«اتفاق الطائف» الذي ينص على المناصفة، وهو الأمر الذي لم يخرجوا منه وعنه، منذ ذلك الحين، وشكل منطلقاً لما سيسمى «الثلث الضامن» أو الثلث المعطل الذي أقر في «مؤتمر الدوحة» عام 2008، والذي يشكل منطلق التعطيل، حتى هذه اللحظة، عبر مطالبة حليفهم الرئيس ميشال عون به (رغم النفي)، ما يعطل مهمة سعد الحريري في تشكيل حكومة المهمة الإصلاحية التي اقترحها ماكرون!
ويتناسى «حزب الله» وقبلان الذي يتحدث أمرين أساسيين: أولاً أن موضوع الحياد مسألة كيانية في لبنان، لا يُفهم منها الحياد عن الصراع العربي مع إسرائيل، وهو ما تتضمنه مقدمة الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني لجهة القول حرفياً إن «لبنان وطن حر سيد مستقل، وطن نهائي لجميع أبنائه، واحد أرضاً وشعباً ومؤسسات في حدوده المنصوص عنها في هذا الدستور والمعترف بها دولياً، ولبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو عامل ومؤسس في جامعة الدول العربية، كما هو عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة، ويلتزم مواثيقها، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان»!
ولعل من المثير والعجيب أن تصبح الدعوة إلى التدويل خيانة، في حين أن التدويل قد شكل مطلباً حيوياً وضرورياً وافق عليه «حزب الله» وبحماسة، كما يتذكر الجميع، عندما أقرّ مجلس الأمن في 11 أغسطس من عام 2006، بعد عدوان إسرائيل، مشروعاً فرنسياً - أميركياً هو القرار 1701، الذي وافقت عليه الحكومة اللبنانية بالإجماع، حيث قال حسن نصر الله يومها: «نحن نوافق على القرار ونحترم وقف إطلاق النار»، وكرر هذا القول في 10 سبتمبر (أيلول) من عام 2019 لمناسبة عاشوراء: «إن لبنان يحترم القرار 1701، و(حزب الله) جزء من الحكومة»، أوليس هذا قمة التدويل؟
فعلاً أولم يكن قرار مجلس الأمن رقم 1701 قمة التدويل؛ فكيف تصبح دعوة البطريرك الراعي إلى التدويل لإنقاذ لبنان من الانهيار النهائي، الذي سيصيب أيضا بيئة «حزب الله» التي خرجت وتخرج لتشعل الإطارات وتقطع الطرق وتطالب بحكومة إنقاذ؟ كيف تصبح دعوة الراعي خيانة، عندما ينسى نصر الله موافقته تكراراً على القرار 1701 الذي ينصّ في بنده التنفيذي - الفقرة 11 على وجوب «التنفيذ الكامل لبنود (اتفاق الطائف) ذات الصلة، والقرارين 1559 و1680 اللذين ينصان على نزع سلاح كل المجموعات المسلحة في لبنان، بحيث إنه، وتبعاً لقرار الحكومة اللبنانية في 27 يوليو (تموز) 2006، لن تكون هناك أسلحة أو سلطة في لبنان غير أسلحة الدولة اللبنانية وسلطتها، ومنع بيع أو تزويد لبنان أي أسلحة إلا بإذن حكومته.
كان التدويل مطلباً ملحاً عند الحاجة إليه عبر القرار 1701، وصار الآن عندما طالبت به بكركي مدعومة من كل الطيف السياسي في لبنان، مرفوضاً وخيانة، لأن لبنان صار، كما قال الراعي تماماً: «يقف أمام حال انقلابية بكل معنى الكلمة، على مختلف ميادين الحياة العامة وعلى المجتمع اللبناني، وما يمثل وطننا من خصوصية في هذا الشرق».
لقد استفاد «حزب الله» دائماً من التدويل، على قاعدة قول نصر الله إنه جزء من الحكومة اللبنانية، استفاد في مؤتمرات باريس 1 و2 و3، و«مؤتمر سيدر» في 18 أبريل (نيسان) 2018، الذي حضرته 40 دولة، وهو يرفض التدويل اليوم خوفاً من أن يستعيد لبنان توازنه السياسي والاقتصادي وقواعده السيادية الاستقلالية، بعدما جاء وقت صارت طهران تقول علانية إنها تهيمن على بيروت، وإن لبنان مجرد منصة صاروخية لضرب إسرائيل، في حين يكرر نصر الله أنه جزء من دول الممانعة، وهذا تدويل بالفارسية طبعاً!