بقلم: راجح الخوري
كان الأمر مثيراً تماماً يوم الأربعاء الماضي، عندما استهل الرئيس ميشال عون كلامه في «اللقاء الوطني المالي»، بالقول إن طلب المؤازرة من صندوق النقد الدولي، هو الممر الإلزامي للتعافي الاقتصادي، وخصوصاً عندما يأتي هذا الكلام بعد أقل من أسبوعين على قول «حزب الله»، إنه يرفض أن يخضع لبنان لشروط هذا الصندوق باعتباره من أدوات «الاستكبار العالمي»!
في محاكاة ضمنية للحزب، أكمل عون قائلاً ما معناه أن العبور من هذا الممر، يتم بدون إملاء أو وصاية أو ولاية، ولكن صندوق النقد الدولي لا يريد أن يكون لا أداة إملاء أو وصاية أو ولاية، ولا يمكن له أن يكون، إذا كانت الدولة اللبنانية تريد فعلاً أن تنخرط في عملية إصلاح إنقاذية، تنتشل البلاد من قاع الإفلاس، وتمنع انفجار ثورة الجوع الزاحفة، في بلد زادت نسبة البطالة فيه على 52 في المائة وتجاوزت نسبة من هم تحت خط الفقر 35 في المائة، كما أعلن وزير المال في الاجتماع المذكور!
ولكن كيف يا سيدي الكريم، وأنت تتعامل مع مسؤولين في دولة تتداعى، وهم يتحدثون بلغة متناقضة بين يوم وآخر، ولا يترددون في التبشير بـ«خطة إنقاذية اقتصادية»، صادف أنها كانت موضع انتقادات صريحة، حتى من نواب السلطة نفسها، التي شكّلت حكومة اللون الواحد وفق دفتر شروط «حزب الله»، وذلك في جلسة لجنة المال والموازنة النيابية، التي كانت منعقدة بالتوازي مع لقاء بعبدا لعرض ما قيل إنه برنامج لخطة التضامن المالي؟
لست أدري كيف يمكن أن ندمج دعوة الرئيس عون السياسيين إلى ضرورة تجاوز الحسابات والرهانات السياسية وإلى الاتحاد، وسط هذا الاحتدام السياسي الصارخ وقد عكسته مقاطعة كتلة المستقبل الاجتماع، وتغيّب حزب المردة وحزب الكتائب وكتلة نجيب ميقاتي، وكذلك حضور الدكتور سمير جعجع الذي شارك في الاجتماع، لكنه وقف أمام القصر الجمهوري ليدلي ببيان اتهامي صريح، ويعلن معارضته الخطة، داعياً إلى المباشرة بالإصلاح وتنفيذ القوانين قبل دق طبول الخطط الإنقاذية!
طبعاً لم يفت عون الحديث عن ضرورة الإصلاح وفرض «أقصى درجات الشفافية وأيضاً أقصى درجات الاتحاد»، وهو ما يستدعي السؤال: الاتحاد بين من ومن، في ظل الحديث عن الفساد الذي يتراكم منذ أعوام، فالطقم السياسي الذي يدعوه إلى الاتحاد ليس سوى الطقم السياسي إياه الذي يحكم البلاد منذ أعوام.
زيادة في إثارة الذهول لم يتردد رئيس الحكومة حسان دياب في القول أن «لا مجال للمزايدات اليوم، ولا مكان لتصفية الحساب، ولا يُفترض فتح الدفاتر القديمة في السياسة» وهذا كلام يوازي القول «عفا الله عما مضى» ربما باعتبار كل السياسيين والمسؤولين الذين أوصلوا البلد إلى الإفلاس هم من الملائكة، لكن الغريب العجيب أن دياب كان قد أعلن في بيان له قبل أيام بالحرف أن «الفساد هو داخل الدولة»، ولكنه ربما نسي عندما استفاض في القول إن «خطته الإنقاذية» ليست ملكاً لحكومة أو حكم إنما هي برنامج عمل للدولة هدفه عبور لبنان مرحلة صعبة!
غريب كيف يتناسى قوله أمس، إن الفساد هو داخل الدولة، ليستطرد داعياً «كل القوى السياسية والكتل النيابية والأحزاب والهيئات والفعاليات الاقتصادية والمصارف إلى التوقف عن السجالات والتخلص من الأوهام المصلحية التي لا تدوم وإلى وقفة مع الذات»، هكذا بالحرف ولكأن لا علاقة لكل هؤلاء بفساد الدولة ودفعها إلى الإفلاس، لا بل إنه دعاهم جميعاً إلى «شراكة وطنية في ورشة الإنقاذ من دون أحكام مسبقة ومن دون غايات وخلفيات مبطنة، فهذا اللبنان لنا جميعاً!».
وماذا تعني دعوة عون الجميع إلى أقصى درجات الشفافية، وهو الذي يردد أن الذين تعاقبوا على الحكم هم الذين أفلسوا البلد، وماذا تعني دعوة دياب كل السياسيين والنواب والأحزاب إلى التفاهم والتعاون، وهل كثير إذا قلنا ولكأن هناك دعوة إلى نسيان الماضي، وفعلاً عفا الله عما مضى، والتوقف عن الخلافات والصراعات وأن الفساد الذي هو داخل الدولة سيتحوّل طهارة وشفافية ونظافة!
ثمة ما لا يصدّق أو يعقل في كل هذا الذي سمعه اللبنانيون، ولكن بات من الواضح أولاً، أن هناك رغبة في أن يشارك معارضو الحكومة وهيمنة «حزب الله» السياسية عليها، في تحمل المسؤولية عن الوضع الإفلاسي الكارثي الذي وصلت إليه البلاد، وخصوصاً أن صندوق النقد الدولي ليس شكلاً من أشكال الوزارات والمؤسسات الفالتة للنهب كما الحال في لبنان، وأن هناك مروحة شاملة وحازمة من الإصلاحات التي سيشرف خبراء دوليون على تنفيذها ولا يمكن الحصول على دولار واحد دون ذلك!
لا داعي طبعاً للتذكير بالمصاعب الاقتصادية الهائلة التي تعصف بأوضاع الدول المانحة بسبب وباء «كورونا» الذي عرقل عجلة الإنتاج في العالم، لكن الأهم هو في إشارة عون إلى «أن الخطة لم تدرس بفكر سياسي بل بفكر اقتصادي»، وقد جاء هذا وكأنه رد على مجموعة تقارير وتحليلات كررت دائماً أن الإصلاحات المطلوبة ليست عملية إدارية ومالية فحسب، بل تتصل جوهوياً بما تعده الدول المانحة من جهة وصندوق النقد الدولي من جهة ثانية إصلاحات سياسية وسيادية أيضاً، وتقول تقارير دبلوماسية في هذا السياق إن العواصم الكبرى تتحفظ على التعامل مع حكومة يديرها «حزب الله».
وتوقفت هذه التقارير يوم الأربعاء الماضي مثلاً، عند استدعاء وزير الخارجية ناصيف حتي، السفير الألماني في بيروت جورج بيرغلين والطلب منه تفسير قرار الحكومة الألمانية حظر نشاطات «حزب الله» على أراضيها، حيث كرر له موقف الحكومة اللبنانية من أن الحزب مكوّن سياسي أساسي في البلاد ويمثل شريحة واسعة من الشعب وجزءاً من البرلمان!
ليس خافياً هنا أن العواصم الكبرى تنتظر من الدولة إثبات قدرتها على محاربة الفساد، الذي تعتبر هذه الدول أن الحزب هو من أكبر مسببيه، وسبق أن قال مساعد وزير الخارجية الأميركي ديفيد شنكر إن من المهم أن نرى أن هذه الحكومة اللبنانية التي يشكل «حزب الله» جزءاً مهماً منها، قادرة فعلاً على الالتزام بالإصلاح، وخصوصاً أن الحزب يعتمد على التمويل غير القانوني وعلى الفساد وسيطرته على المعابر وعدم دفع متوجباته للدولة.
يوم الأربعاء الماضي كتب جيفري فيلتمان السفير الأميركي السابق لدى لبنان مقالاً في موقع «بروكينغز» جاء فيه «ما دامت الحكومة اللبنانية اعتمدت على (حزب الله) وحلفائه لدعمها، فإن التبريرات التقليدية للحصول على المساعدة الخارجية لا تعود مقبولة، والتحدي هو إقناع الدول المانحة بأن الخطة الاقتصادية التي تتحدث عنها الحكومة لا تعزز هيمنة (حزب الله) على دولة متصدعة ومتهالكة بشكل مطرد!».
رئيسة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا أجرت اتصالاً مع دياب حول الخطة الاقتصادية أعلن أنه كان مثمراً، إلا أن مدير البنك الدولي ساروج كومار كان قد أعلن بعد لقاء دياب مع سفراء الدول المانحة، أنه لن يكون هناك أي مساعدات مجانية، لأنها تبقى مرتبطة بإصلاحات ملموسة، مشدداً على قطاع الكهرباء الذي كبّد الدولة اللبنانية أكثر من خمسين مليار دولار.
التقارير الدبلوماسية تؤكد أن واشنطن وباريس تشددان على أمرين؛ أولاً أن يتولى الجيش اللبناني السهر على تطبيق القوانين ومراقبة المعابر ومنع التهريب، وثانياً أن يجري بأمانة تطبيق سياسة النأي بالنفس وعدم التدخل في شؤون الدول المحيطة، وفي هذا السياق قال مصدر فرنسي بالحرف « on ne jette pas le bebe avec l,eau du bain» أي أن الخطط الإصلاحية لا يمكن أن تأتي على يد الذين صنعوا الفساد، وهو ما يذكّر بقول إدوارد دانيال من «تاسك فورس فور ليبانون» عندما زار بيروت وقابل المسؤولين العام الماضي: «لا يمكن تنظيف البيت بالممسحة الوسخة».
في النهاية، عندما يقول دياب إن «الفساد داخل الدولة» فلا علاج إلا عبر اقتلاع دولة الفساد العميقة… فكيف يا سيدي؟