بقلم : راجح الخوري
الأسئلة الخمسون التي أرسلتها وكالة «ستاندر آند بورز»، إلى بيروت عشية إصدار تقريرها عن تصنيف لبنان الائتماني، الذي يشكّل مؤشراً مهماً تعتمده عادة المراجع الدولية المهتمة بالوضع الاقتصادي، كانت في معظمها تتعلق بالأوضاع السياسية في لبنان، أكثر من تناولها الوضع المالي. هذه القائمة من الأسئلة وُجهت إلى وزارة المال وإلى المصرف المركزي، بما يشكل بالنسبة إلى الخبراء بديهتين...
الأولى طبعاً، توضح أن الوكالة الدولية التي تعرف حيثيات الوضع والتطورات في لبنان، مهتمة بمعرفة الاحتمالات السياسية، أكثر من اهتمامها بالوضع الاقتصادي وما يواجهه من صعوبات، بما يؤكد وجهات النظر المعروفة أن أزمة لبنان قاعدتها سياسية ونتائجها اقتصادية.
الثانية لا تخرج طبعاً على قاعدة الارتباط التفاعلي الحتمي بين السياسة والاقتصاد، وهذا أمر معروف منذ زمن بعيد، ورغم كل هذا فإن الوسط السياسي اللبناني، يمضي في صراعاته وخلافاته ويغرق في الفساد والإهدار إلى درجة رفعت الديون السيادية اللبنانية إلى أرقام فلكية، مع الحديث عن أن الدين العام لامس 90 مليار دولار، ثلث هذا الدين أنفق على قطاع الكهرباء، ولا تزال البلاد تخضع إلى التقنين.
وقياساً بمسلسل الأزمات السياسية، التي غالباً ما أدت إلى تعطيل سلطات الدولة، من فراغ في رئاسة الجمهورية استمر عامين ونصف العام، إلى فراغات نشأت لاحقاً عن خلافات على تشكيل الحكومات، ودائماً على قاعدة المحاصصة والأحجام السياسية والحقائب الوزارية، وما إلى ذلك، كان من الطبيعي أن تتركز أسئلة وكالة التصنيف الدولية المعروفة على الوضع الاقتصادي، وهكذا تراوحت الموضوعات التي طرحتها بين الوضع الحكومي واحتمالات دورة إنتاجيته، والتوقعات التي تتصل بموضوع الاستقرار في البلاد، والطرق التي ستعتمدها الدولة في إصدار مراسيمها التطبيقية، ووضع اللجوء السوري وتأثيره المحتمل على لبنان، ومدى انعكاس نتائج العقوبات الأميركية على إيران بالنتيجة على لبنان، وخصوصاً مع وجود «حزب الله» النافذ والمؤثر في مسار السلطة، وأخيراً كيف يُعِدّ المسؤولون أو يستعدون للتعامل مع المتغيرات في المنطقة التي تشهد أحداثاً ساخنة وتمر بمخاض دقيق!
لم يكن الأمر بمثابة امتحان وتوجيه أسئلة من «ستاندر آند بورز»، بمقدار ما كان محاولة استكشاف لمدى إدراك الدولة اللبنانية واستعداداتها، لمواجهة التطورات والاحتمالات، ولم يكن الأمر مفاجئاً على الإطلاق، فقد درجت العادة على توجيه مثل هذه الأسئلة إلى دول كثيرة، وخصوصاً أن الرئيس ميشال عون شخصياً كان في 17 يونيو (حزيران) الماضي، قد شبّه الوضع في لبنان بوضع سفينة «تايتانيك» التي كانت تغرق ببطء، بينما كان ركابها يرقصون في صالوناتها غير مدركين للخطر الذي يلمّ بها، إلى أن كانت الكارثة.
ومن يونيو إلى اليوم، ليس من المبالغة القول إن الرقص السياسي استمر في تايتانيك اللبنانية، التي كادت أخيراً تغرق نهائياً بعد انفجار أزمة قبرشمون والبساتين، التي عطّلت السلطة التنفيذية لمدة شهرين، رغم الاستحقاقات الداهمة، أمنياً، واقتصادياً عبر الضرورات الملحّة لإقرار الموازنة لهذه السنة، التي تقترب من الانتهاء، وكذلك عبر استحقاق مهم، بل مصيري يتعلّق بالاستعداد لتنفيذ قرارات «مؤتمر سيدر»!
ليس من المبالغة القول إن البيان الصارم والقوي، الذي أصدرته السفارة الأميركية عن حادث قبرشمون، شكّل مقدمة واضحة لمسار المحادثات، التي أجراها الرئيس سعد الحريري قبل يومين في واشنطن مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وعدد من المسؤولين الأميركيين، لجهة مسألة دقيقة تركز عليها الإدارة الأميركية، وهي تموضع الدولة اللبنانية حيال العقوبات المفروضة على إيران، وخصوصاً لجهة تأثير طهران على القرار السياسي اللبناني، عبر وجود «حزب الله» المؤثر والفاعل في السلطتين التشريعية والتنفيذية اللبنانية.
كان من الواضح طبعاً أن ما جرى في عملية تشكيل الحكومة اللبنانية، جاء على خلفية نوع من سياسة المكاسرة التي أحس النائب السابق وليد جنبلاط أنها تستهدفه، وقد زاد من هذا إصرار «حزب الله» الواضح، على إحالة حادث قبرشمون إلى المجلس العدلي، ما يشكل أدانة سياسية لجنبلاط والحزب التقدمي الاشتراكي.
وعندما تبيّن لواشنطن أن الرئيس عون حليف الحزب يدفع في هذا الاتجاه أيضاً، صدر البيان المذكور، الذي عكس تشكيكاً صريحاً في المسار الذي تأخذه الأحداث، عندما قال بالحرف: «إن أي محاولة لاستغلال الحدث المأساوي الذي وقع في قبرشمون تهدف إلى تعزيز أهداف سياسية، يجب أن يتم رفضها»، بمعنى واضح جداً أن واشنطن تستشف فعلاً محاولات لتعزيز موقع «حزب الله» وجماعة «8 آذار» عبر مكاسرة جنبلاط ومؤيديه من جماعة «14 آذار»!
أما عندما قال البيان المذكور: «إن الولايات المتحدة عبّرت بعبارات واضحة إلى السلطات اللبنانية عن توقعها بأن تتعامل مع هذا الأمر بطريقة تحقق العدالة دون تأجيج نعرات طائفية ومناطقية بخلفيات سياسية»، فمن الواضح أيضاً أن واشنطن تتخوف من تعامل قضائي مع الحدث، يؤدي إلى تأجيج النعرات الطائفية والمناطقية، بما قد يؤدي تالياً إلى نوع من الفوضى تدفع بلبنان أكثر نحو التيار الإيراني - السوري.
والبيان الأميركي ليس شيئاً إذا قورن بنتيجة زيارة وفد «مجموعة العمل الأميركية من أجل لبنان» (تاسك فورس) إلى بيروت، والتي تُعدّ دراسة تهدف إلى توثيق رؤية اللبنانيين لبلدهم في العقد المقبل، ودور الولايات المتحدة في دعم هذه الرؤية، كما تهدف إلى إطلاع الإدارة الأميركية والكونغرس على فهم معمّق لأهمية لبنان بالنسبة إلى المصالح الأميركية في الشرق الأوسط!
لماذا؟
على الأقل لأن رئيس المجموعة السفير السابق إدوارد غابريال كتب مقالاً في صحيفة «ذي هيل» عن نتائج الزيارة، أشاد بالبنك المركزي وسياسته النقدية التي يهندسها رياض سلامة ورفاقه، وقال إنها اشترت البلاد لسنتين إضافيتين، تمهيداً لوضع سياسة نقدية قوية، قبل أن يصل لبنان إلى القاع، لكن المقال دمّر كلياً الطبقة السياسية عندما قال: «لقد وجدنا المجتمع السياسي اللبناني، ولا سيما الحكومي لا يفهم تماماً المشروعات المختلفة... وثمة من يطالب بالقروض بلا أي قيود، أي بلا أي إصلاحات»!
خلاصة المقال كانت ضمناً تدعو إلى ما يشبه الثورة على هذا الواقع المزري، عندما قال غبريال: «على اللبنانيين أن يعرفوا أنهم لا يستطيعون تنظيف المنزل بممسحة وسخة». ما يعني ضمناً أنه من غير الممكن إصلاح الوضع وتنظيف البيت اللبناني، إلا إذا تم تغيير الممسحة الوسخة.
هل هذا الكلام كثير، عندما يقول البطريرك بشارة الراعي، إذا ألقينا نظرة على ممارسة العدالة ودور المحاكم والمجالس الدستورية، التي تحمي حقوق المواطنين والدولة، فسوف نرى أن العدالة ضحية التدخلات السياسية والنافذين السياسيين. إنهم يعطلون المحاكم والحكومة أحياناً؟! لا يبدو هذا الكلام قاسياً، عندما يصدر نادي قضاة لبنان قبل يومين، بياناً يستهدف المسؤولين السياسيين، ويقول حرفياً: «كفى تدميراً للقضاء وكيلاً بمكيالين»!
بإزاء كل هذا... كان السؤال الصعب في بيروت في اليومين الماضيين؛ ماذا يستطيع الحريري أن يفعل لتحسين صورة لبنان، التي تزداد سوءاً في نظر الإدارة الأميركية، التي ترى أن لبنان بات عبر نفوذ «حزب الله» بوابة خلفية للالتفاف على العقوبات الأميركية على إيران؟