بقلم : راجح الخوري
24 يوماً على اندلاع الثورة في لبنان، والمسؤولون في رأس السلطة، يبحثون عن جنس الملائكة، وليس كثيراً القول الآن إن البلد واقع بين فكي كماشة قاتلة، فالانهيار السياسي الكامل من جهة، والانهيار المالي الكارثي من جهة ثانية، والبلد يبدو من دون سلطة تدرك فعلاً خطورة ما يجري.
بات من الواضح أن لبنان ذاهب إلى الانهيار؛ لأن هذه الأزمة المصيرية يمكنها بسبب العناد والتعالي والمشاوفة، ومحاولات مراكمة الشعبوية الطائفية على المستوى المسيحي تحديداً، وبسبب حسابات حافة الهاوية، بين تحالف «حزب الله» والرئيس ميشال عون وتياره السياسي، وكذلك بسبب الارتباك المتصاعد عند «حزب الله» في ظل انفجار المظاهرات الكبيرة في العراق، التي تطالب بخروج إيران التي تواجه خلافاً متزايداً بين المرشد علي خامنئي والرئيس حسن روحاني.
وهكذا تساقطت رهانات السلطة السياسية تباعاً، أولاً على أن الفتنة سرعان ما ستأكل الانتفاضة التي جمعت ثلث الشعب اللبناني في 17 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الذي خرج ثائراً متظاهراً من أقصى الشمال السني، إلى أقصى الجنوب الشيعي، وفي قلب معاقل ثنائية «حزب الله» و«حركة أمل»، مروراً بالجبل المسيحي والدرزي، وهاتفاً بصوت واحد: لا مسيحي ولا مسلم ولا درزي بل لبناني، وأن المطلوب هو إسقاط كل المنظومة السياسية التي أوصلت لبنان إلى هذا الدرك من الانهيار وغياب المسؤولية، وجعلت منه مزرعة لمجموعات من السياسيين الذين نهبوا البلد.
وثانياً، على قيام خلافات بين المنتفضين الذين يقطعون الطرق ويحتلون الساحات، وبين المواطنين، لكن تبين أن الناس تؤيد الحراك الذي يتعاظم، وثالثاً عندما راهنت على وقوع صدام بين الجيش وقوى الأمن التي أرسلت لفتح الطرقات، وهذا لم ولن يحصل؛ لأن الحراك غيّر من تكتيكاته مستهدفاً المراكز الحكومية والمؤسسات، التي يعتبرها مسؤولة عن الفساد المستشري في البلاد، ثم كانت الخطوة التالية وهي انضمام الطلاب إلى المظاهرات وإلى مراكز الحراك.
بعد كل هذا ماذا فعلت السلطة المسؤولة؟
حتى كتابة هذه السطور لم تفعل شيئاً، بينما كان المنتظر أن يسارع الرئيس عون إلى تحديد موعد لاستشارات نيابية لتكليف رئيس جديد بعد استقالة الرئيس سعد الحريري، صحيح أن الدستور لا يلزمه بمهلة محددة، لكن الوضع المتفجر في البلد يفرض بالضرورة الإسراع في تشكيل حكومة إنقاذ، تحاول أن تستجيب لمطالب الانتفاضة، أو تجد حلاً للوضع المتفجر.
ورغم كل ذلك عون إلى الاستمهال، أولاً ليوجّه خطاباً إلى الناس لمناسبة الذكرى الثالثة لبدء ولايته، وثانياً ليقف خطيباً في مظاهرة نظمها التيار الوطني الحر تأييداً له، ورغم هذا قال إنها ليست شارعاً ضد شارع، واعداً بمحاربة الفساد وبالنهوض الاقتصادي بالدولة المدنية وبتشكيل حكومة نظيفة، بما يوحي أن الحكومات السابقة كانت «وسخة» كما يهتف المتظاهرون، وأن المطلوب إسقاط كل الطقم السياسي الذي جعل من لبنان مزرعة فالتة، لكن ابنته ومستشارته كلودين عون روكز لم تتردد في التساؤل كيف ينظم المرء مظاهرة لتؤيده؟
ولكن حكومة نظيفة ومن أين؟
الانتفاضة المتعاظمة تطالب بحكومة من رجال تكنوقراطيين من ذوي الكفاءة والاختصاص ومن خارج المستويين السياسي والحزبي في البلاد، بينما بدا منذ اللحظة الأولى أن «حزب الله» يتمسك بحكومة سياسية يستطيع عبرها أن يحفظ نفوذه الطاغي على القرار السياسي، وخصوصاً في ظل التطورات المتصاعدة ضد السياسة الإيرانية والتدخلات في المنطقة.
وهكذا أعطى الاستمهال في بدء الاستشارات النيابية، التي يفترض أن يجريها عون، مبررات بدت في نظر البعض تجاوزاً للدستور عندما يقال إنها لتسهيل التشكيل، وبالنسبة إلى المنتفضين في الشوارع بدت الأمور على كثير من الاستخفاف، عندما قيل إن اللقاء الذي جرى بين الرئيس الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل صهر عون كان بمثابة اختراق، ومما زاد في غيظ الناس أنه بعد الاجتماع الثاني بينهما، صار الحديث عن ثلاث صيغ حكومي؛ واحدة سياسية يريدها «حزب الله»، ويرفضها الحريري، الذي كان واضحاً في استقالته عندما قدمها دستورياً إلى عون، وسياسياً إلى الانتفاضة التي ترفض أي حكومة من المستوى السياسي في البلد، والصيغة الثانية سميت تكنوسياسية، أي أنها تجمع وزراء سياسيين إلى جانب خبراء تقنيين وهي صيغة لن تكون بعيدة عن الأولى؛ لأن هؤلاء التقنيين سيولدون من رحم السياسيين الأوصياء عليهم، ولهذا لم يتم التفاهم عليها. أما الصيغة الثالثة التي يطالب بها المنتفضون فلم تلقَ قبولاً من باسيل!
وبدت عملية تأخير الاستشارات وطرح صيغ حكومية يحملها باسيل إلى الحريري، وكأنها محاولة للإيحاء بما كان عليه الوضع قبل اتفاق الطائف الذي صار دستور البلاد، بمعنى أن رئيس الجمهورية هو من كان يشكل الحكومات ويختار لها رئيساً، ولهذا يقول البعض إن ما يجري هو بمثابة القول للحريري: نحن الذين نفصّل وأنت الذي تلبس، نحن الرأس وأنت القبعة!
لكن الحريري وتيار المستقبل والمنتفضين يرفضون كل هذا، وخصوصاً أن الحريري يقف عند استقالته التي قدمها إلى الشعب والثورة، وهو متمسك بضرورة عدم تجاوز مطالب الانتفاضة في حين يحاول الفريق الآخر الالتفاف على الانتفاضة من خلال حركة مفتعلة تراهن على تعب الشارع وملل الناس، الذين يتمسكون في مختلف مكوناتهم الشبابية والمناطقية، بتشكيل حكومة حيادية من 12 وزيراً غير مرتبطين بالأحزاب السياسية، لكي تباشر بالإصلاحات المطلوبة وتحقق مطلب استعادة الأموال المنهوبة، وهم لن يوقفوا حراكهم ما لن يحققوا هدفهم.
وهكذا تتصاعد الانتفاضة منذ 24 يوماً، وتدور السلطة المسؤولة في حلقة مفرغة وتتهاوى الدورة السياسية في لبنان، فمن جهة يطالب الثوار بخلع كل الطقم السياسي ومحاسبته، لكن من جهة ثانية يرتفع سؤال أساسي ومهم، من سيحاكم من إذا كان معظم الطقم السياسي شريكاً في الفساد ونهب البلاد، وخصوصاً عندما تصرخ السلطة القضائية داعية إلى رفع اليد السياسية عنها.
عندما قدم الحريري الورقة الإصلاحية التي أقرتها الحكومة، قالت وكالة «بلومبرغ» إنها مجرد خطة لتأجيل يوم الحساب، وستؤدي في النهاية إلى جدولة الدين العام، بما يعني انحدار لبنان إلى مستوى دولة غير قادرة على سداد ديونها، ووكالة «موديز» رأت الأمر عينه، ورغم كل هذا تستمر المناورات السياسية والبلد ينهار اقتصادياً.
يوم الأربعاء الماضي قالت «موديز» إنه في غياب تغيير سريع وكبير للسياسة، فإن تدهوراً سريعاً لميزان المدفوعات ونزوح الودائع سيهبطان بنمو الناتج المحلي الإجمالي إلى الصفر أو أقل؛ مما سيؤجج مزيداً من الاستياء الاجتماعي والانتفاضة ويقوّض قدرة الدولة على السداد، وفي الوقت عينه قال حاكم المصرف المركزي يوم الخميس الماضي إن وضع لبنان صعب للغاية.
عندما زار الحريري عون مساء الخميس الماضي، لم يتحدث عن أي تقدم، بل قال إن المشاورات مستمرة لتشكيل حكومة جديدة، لكن من الذي يجري المشاورات في غياب الاستشارات النيابية، وأي حكومة ستشكل في ظل استمرار الخلاف، وليس من يستمع جيداً إلى صراخ الانتفاضة في الشارع والليرة في الجيوب الفارغة، بما يضع لبنان أمام إفلاسين سياسي واقتصادي!