بقلم : نيفين مسعد
نشأت - مع أبناء جيلي الذي رأى النور في النصف الثاني من خمسينيات القرن الماضي- في كنف أربع نساء من الإذاعيات الكبار، ساهَمَت كل واحدة منهن ليس فقط في تشكيل وعينا ووجداننا لكن أيضا في صنع ذكرياتنا الحلوة. كانت الإذاعية الأولي هي أبلة فضيلة التي علمتنا فن الحكي عبر برنامجها "غنوة وحدوتة" ، تعلقنا بها وتعامل كل منا مع الدعوة التي كانت تنطلق في مقدمة برنامجها " يا أولاد يا أولاد تعالوا تعالوا" باعتبارها تخصه شخصيا وتخص كل الصغار في مثل عمره فكنا نلبي الدعوة ونلتف حول الراديو ونسمع. وعندما كبرنا أكثر حل برنامج "إلي ربات البيوت" للإذاعية صفية المهندس محل برنامج "غنوة وحدوتة" ، خاطبنا البرنامج كنساء فكانت كل زوجة جديدة تبحث فيه عن وصفة لطبق شهي، أو طريقة مبتكرة للاستفادة من أشيائها القديمة. وتقاطع مع هذا البرنامج برنامجان آخران، أحدهما "علي الناصية" الذي كانت تقدمه آمال فهمي، والآخر "حول الأسرة البيضاء" الذي كانت تقدمه سامية صادق، وطاف بِنَا كلاهما في عواصم عربية مختلفة للتأكيد علي العمق العربي لمصرنا الحبيبة.
كل صوت من أصوات الإذاعيات الأربع كانت له شخصيته الخاصة التي ارتبطنا بها.. والأذن تعشق قبل العين أحيانا، هذه الدفقة من الأمومة الصادقة التي تلازم صوت أبلة فضيلة، هذه اللثغة المحببة في حرف الراء التي تخالط نطق آمال فهمي وتذكرنا بلثغة عبد الوهاب في حرف السين، هذه النعومة التي تكتنف صوت صفية المهندس وهذه الرصانة التي تغلف صوت سامية صادق تعودنا عليها وتصادقنا معها. كل صوت من هذه الأصوات النسائية الأربعة يمثل ظاهرة مستقلة بذاتها، لكن ظاهرة آمال فهمي لها فرادتها. لعل أكثر من تربوا علي صوت آمال فهمي لا يعلمون بعض الجوانب الخفية في شخصيتها، لا يعلمون أنها استهلت حياتها بممارسة السياسة وشاركَت في تأسيس الحزب النسائي مع درية شفيق عام ١٩٤٧، هذا الجانب السياسي ليس هو مبعث شهرتها بالتأكيد لكنه يكشف عن بعض جوانب ثراء تجربتها الشخصية، تماما كما في ممارستها العمل الصحفي قبل دخولها إلي عالم الإذاعة. ثم أن آمال فهمي ظلت تقف خلف الميكروفون حتي سنوات قليلة قبل رحيلها، وشاركت في العديد من اللقاءات التلفزيونية والصحفية بعد توقفها عن العمل، وهذا جعلها بالصوت والصورة حاضرة في حياتنا رغم الغياب.
وقفنا علي ناصية آمال فهمي سنين طويلة جدا، واقتربَنا معها مما يحلو للإعلاميين وصفه ب "نبض الشارع المصري" فهي لم تترك قضية من قضايا المجتمع إلا وحاورت المسؤول المختص وأخذت وعدا بالحل وتابعت التنفيذ. لكنها لم تكتف بأن تعكس اهتمام الناس بل تعمدت إثارة اهتمامهم، أذكر مثلا كيف التقت مع دكتور أحمد يوسف أحمد مدير معهد البحوث والدراسات العربية لتناقشه في ملابسات منح المناضل الفلسطيني مروان البرغوثي درجة الدكتوراه وهو في الأسر، ولم يكن هذا بالأمر بالمعروف جماهيريا. وهذا جزء من إدراكها لدور الإعلامي في عملية التوعية .
تفسر آمال فهمي قدرتها علي حفظ تواصلها مع الناس رغم المنافسة الشرسة من التلفزيون فتقول إن "التلفزيون جهاز كسيح ما بيتحركش" ، أما الترانزستور في المقابل فإنه موجود في كل مكان، وتضيف ضاحكة " أنا ما باتسمعش غير في المطابخ"، وهي هنا تبالغ بالتأكيد لكن في الواقع فإن لها شعبية خاصة بين النساء، وذلك أن توقيت إذاعة "علي الناصية" بعد صلاة الجمعة تجعلها تصاحب كل ربة منزل وهي تعد طعام الغداء لأسرتها . ثم أن الإذاعة تلعب علي الخيال وتطلقه إلي غير مدي وهذا صحيح جدا، فعلي المستوي الشخصي مثلا صدمتني رؤية أطفال برنامج "غنوة وحدوتة" حين التقيت بهم علي كَبَر واكتشفت أنهم شباب يرققون أصواتهم ويُرّفعونها
من الصعب أن نختزل آمال فهمي في "علي الناصية" وإن ارتبطت في الأذهان به إلي حد التوأمة، فهي أيضا صاحبة أول برنامج للفوازير في الإذاعة، وأتتها فكرة الفوازير حين انتبهت في محطة البنزين علي صوت لم تدركه فورا ثم تبينت أنه صوت ملء إطار السيارة . بدأت جوائز فوازير آمال فهمي بخمسة جنيهات وانتهت بالآلاف ، وكتبها لها بيرم التونسي ومفيد فوزي وصلاح چاهين وبهاء چاهين ، وكما كان هناك تلازم بين "علي الناصية" وبين غداء يوم الجمعة كذلك كان هناك تلازم بين فوازيرها وإفطار رمضان. ينطلق مدفع الإفطار ويرفع الشيخ محمد رفعت آذان المغرب بصوته الرخيم ومن بعده تواشيح الشيخ سيد النقشبندي ولا أروع من ذلك، ثم تشغلنا آمال فهمي بأحاجيها. لم أنقطع يوما عن متابعة برنامج الفوازير إلا عام ٢٠١٢ عندما اتخذ عنوانا له "الشعب يسأل والرئيس يجيب"، اعتبرتُ ذلك يخرج عن إطار الفوازير فانصرفت عن البرنامج.
في كل مرة وقفَت فيها آمال فهمي خلف الميكروفون أتتنا لغتها البين بين راقية كل الرقي، بمزيج من الفصحي بحكم التخصص والعامية لزيادة عدد المستمعين كانت تخاطبنا فكنا نسمع وندع أطفالنا يسمعون، وظلت حتي آخر لقاء معها تدافع عن أناقة اللغة وتنتقد الإسفاف. تتلمذ علي يديها المئات من مشاهير المذيعين وجمعتها بهم علاقة قوامها الود والاحترام والتشجيع ، فالكبار لا يغارون من تلاميذهم .. وحدهم الصغار يفعلون.
ها هي قطعة ثمينة من تاريخ الإذاعة المصرية وتاريخنا الشخصي تُقتطع منا ولا راد لقضاء الله، فكيف نوّدعها وكيف نوْدِع حبنا في سلامنا الأخير لها ؟ كانت آمال فهمي تنهي برنامجها الأشهر "علي الناصية" قائلة "من القاهرة لكم التحية ولمصر الحب كله وإلي اللقاء". ونحن بدورنا نقول لها "من كل الواقفين بناصيتك تحية ولجيلك الرائع الحب كله وإلي لقاء".
نقلاً عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع