بقلم : نيفين مسعد
لفت نظري عنوان هذه الرواية التي استقرت على أحد أرفف مكتبة أنطوان في شارع الحمرا ببيروت، هذه المكتبة نفسها ستلعب دورا وإن يكن محدودا في الجمع صدفة بين بطلي الرواية شادي ويارا بعد لقائهما لأول مرة في الطائرة المتجهة من باريس إلى بيروت. كاتبة رواية "بين غمازتين" هي اللبنانية غيداء طالب التي تشتغل بتدريس اللغة الفرنسية والمقيمة في دولة الإمارات العربية منذ ستة عشر عاما، والرواية حديثة فلقد صدرت هذا العام عن دار نوفل وهي الدار نفسها التي نشرت رواية غيداء الأولى قبل أربعة أعوام وكان عنوانها "كل عام وأنت حبي الضائع". عنوان الرواية الجذاب، ولبنان الحبيب الذي تدور فيه الأحداث، وصفات مثل درزية ومسيحي ومسلمة وطائفة التي استفزت اهتمامي بموضوع التعدد الاجتماعي، هذه كلها عوامل شجعتني على القراءة لغيداء لأول مرة، ولو أني اكتفيت بالفقرة المستلة من الرواية على الغلاف الخلفي ربما لما أقدمت على قراءتها ولا تعرفت على قلم غيداء، فهذه الفقرة التي تحكي عن مشاجرة بين شادي البطل وزميله طوني تبدو غير موحية، والأهم أنها لم تترك بذاتها أي أثر على مسار الأحداث داخل الرواية، ولا أوضحت للقارئ المتصفح في عجالة أنها جرت في دار الأيتام وهذا بيت القصيد.
***
مع أن الغمازتين في العنوان تومئان إلى النتوئين المحببين في وجنتي يارا حبيبة شادي، هذه الشابة ذات الجمال المألوف والعينان اللتان يتبدل لونهما ما بين نظرة وأخرى، إلا أنني بعد قراءة الرواية تخيلت الغمازتين كما لو كانتا مزدوجين مفتوحين على كثير من المتناقضات في حياة شادي، لقب نصار الذي يحمله من عائلة أمه المسيحية ولقب شعبان الموروث عن أبيه المسلم، الغموض الذي لف طفولته ولم يفك طلاسمه إلا على كِبَر مقابل الوضوح الذي يميز حياته الباريسية بصخبها ونجاحاتها وغرامياتها المتعددة، اضطراب مشاعره إزاء لبنان هذا البلد الذي قضي فيه أول خمس أو ست سنين من عمره ثم زاره بعد طول اغتراب فلم يدرِ هل يستسلم لحب الزعتر والروشة والمغارة أم يهجو جفوة الوطن الذي طرده من جنته وهو طفل لم يزل؟ هل حقا هو الوطن الذي طرد شادي من رحابه ؟ إلى بعض من تفاصيل الرواية.
***
شادي الثلاثيني هو ثمرة زواج لم يباركه الأهل بين منى المسيحية وعبد العزيز المسلم، انفصل أبواه وهو في سن الثالثة من عمره بعد أن رسمت الحرب الأهلية في سبعينيات القرن الماضي حدودا جديدة وقاسية للعلاقة بين الزوجين الشابين، حارب شربل أخو منى مع قوات الكتائب (المارونية) وشارك عبد العزيز في الحرب لكن على الميلة الثانية( السنية ) كما في اللهجة اللبنانية، وهكذا انتقلت الحدود بين بيروت الشرقية والغربية من طرقات العاصمة إلى داخل بيوتها التي كانت ساكنة .. في الظاهر. هربت الأم مع ابنها وأودعته دارا للأيتام ومن هناك تم بيعه إلى أسرة فرنسية لا تنجب، هو لم يعرف أنه بيع بصفقة تواطأت فيها أمه مع مسؤولي الدار إلا حين زار لبنان لبضعة أيام في أجازة عيد الميلاد، أما قبل ذلك فكانت الرواية المتداولة أن أمه قامت بتسفيره إلى فرنسا حماية له من حرب الطوائف. أما لماذا زار شادي موطنه بعد كل هذه السنين فلأنه تلقى اتصالا من إعلامي لبناني شهير يقدم برنامجا قائما على جمع شتات الأسر وتدبير لقاء لهم على الهواء مباشرة، وفي البرنامج التقى شادي فعلا بأبويه، وهذه الحبكة الروائية القائمة على المصادفة أضعفت النص في تقديري . فلقد التقى شادي بأبويه بالصدفة وإن تكن صدفة مدبرة، ودبرت له حبيبته يارا لقاء مع حبه الأول چوليا مؤثِرَة كليهما على نفسها أيضا صدفة.
***
أما أهم ما في النص فيكمن في معالجته تحكم الطائفة في العلاقات الإنسانية، فالرواية ببساطة تقول لك: قبل أن تحب عليك أن تتعرف على طائفة محبوبتك وإلا فإن علاقتكما تبقى في مهب الريح. أبعدت الحرب الأهلية أم شادي عن أبيه وجمعتها بزوج جديد من طائفتها تماما كما جمعت الأقدار والد شادي مع زوجة جديدة من طائفته، وربط الحب بين شادي نصف المسلم نصف المسيحي وبين يارا الدرزية ابنة الجبل وتقاليد الزواج التي لا "تزبط" مع غير الدروز، وقبل أن يحب يارا أحب شادي چوليا سليم التي اكتفت الرواية بالقول إنها ليست من طائفته وهذا شكل حاجزا مضافا لحواجز أخرى باعدت بينهما. قوة الطائفة لا تتحكم فقط في توزيع المناصب والرئاسات لكن تتحكم أيضا في توزيع المشاعر وتروضها بعنف إن لزم الأمر، وهل يوجد أبشع من قيام أحد البيوتات المسيحية بإخصاء زوج الابنة المسلم ليصير "عبرة لكل من يبحث عن الزواج بآخر من دين مختلف"؟
***
لغة النص تجمع بين العامية اللبنانية وبين العربية الفصحى، تتخللها جمل قصيرة بالفرنسية بحكم نشأة شادي ويارا في فرنسا، وللكاتبة عبارات منحوتة أعجبتني كقولها "ذات حرب" في إشارة إلى توالي حروب لبنان وما خفي كان أعظم، أو قولها "قاب قُبلة" للتعبير عن فوران مشاعر الحبيبين شادي ويارا في لحظة معينة، ومع ذلك كانت لغيداء كلمات ثقيلة على الأذن كقولها "لحظتئذ"، وآه من حرفي الظاء والذال حين يجتمعان. وبشكل عام تميز أسلوب الرواية بجرأة لا تتوفر لكاتبة محافظة كما هي غيداء( صورتها على الغلاف بحجاب مُحكَم ) لكنه لبنان المتميز في كل الأشياء. ثم أن الكاتبة جعلت هناك متحدثا رئيسيا في كل يوم من الأيام التسعة التي قضاها شادي في لبنان وكأنها تريد لأبطالها أن يعبروا عن أنفسهم ويدافعوا عنها إن لزم الأمر ولا تدع غيرهم ينقل عنهم، وهذا جيد.
***
رواية "بين غمازتين" هي بطاقة تعرفي على الكاتبة غيداء طالب التي تكتب عن لبنان من غربتها في دبي، والقاعدة تقول إن الرؤية كثيرا ما تصفو حين ننظر للأشياء ... عن بُعد.
نقلًا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع