بقلم-د. نيفين مسعد
الغربة شعور غير مريح بشكل عام لكن في هذه المناسبات بالذات تصير وطأة الغربة أشد. هي واحدة من كثيرين طردتهم الحرب من بلدهم ونثرتهم في كل صوب كما ينثرون الملح في المناسبات السعيدة ليبعد عن الأحبة الشر وناسه، لكن في حالة مريم هناك فارقان جوهريان: أن مناسبتها ليست سعيدة وأن الشر لم يبتعد. قبل نحو ست سنوات توزع أفراد أسرة مريم على دولتين عربيتين أما هي فوفدت إلى هنا، كانت تملك من التعليم واللغة وقوة الشخصية ما فتح لها أبوابا لا تُفتَح لسواها بسهولة، لكنها مثل أهلها ظلت تنتمي إلى هناك هذا ال "هناك" الذي لم تطله أبدا منذ غادرته ولا تعرف إن كانت ستبلغه يوما أم لا . تُعنّف نفسها إذ تصف الغربة بأنها هنا والوطن الأم بأنه هناك لكنه الواقع. تغمض عينيها وترى نفسها مع أبويها وأيضا مع أخويها وليد ونچلا في ضيعتهم، يتحلق بشر كثيرون من حولهم.. تتقاذفها الأحضان وتُدوي خفقاتها المتسارعة في صدورهم، تتحول بقدرة قادر إلى فراشة تطير من بيت لآخر من بيوت هؤلاء البشر ومن مائدة لثانية من موائدهم، تطير وتطير ولا تستقر إلا بعد أن تهوي على مقعد الطائرة وصوت المضيفة الرقيق/البغيض يأتيها قائلا: الرجاء من السادة الركاب التأكد من ربط حزام الطائرة. تنظر من الزجاج السميك فتتخيل أن طائرتين أخريين يحدانها من يمين وشمال وكأن هذا السرب الجوي في طريقه لينثر ركابه أو ملحه في مقاصد مختلفة. تلوح في طفولة لنچلا ووليد فلا يريانها لكن إحساسا بالراحة يغشاها لأن فضاء واحدا يجمعها بالكل ثم يعود الفضاء ويفرق الكل لتصحو مريم من غفوتها أو تنتبه من شرودها. تتوقف حينا ثم ما تلبث أن تعيد الكرّة كلما استبد بها الحنين .. وكم هو يستبد .
***
في المدينة الأوروبية التي اغتربت فيها مريم توفرت لها كل الظروف المثالية التي تساعدها على أن تعيش حياة الآلة: درجة الحرارة المناسبة والصيانة الدورية والتشغيل السليم. تستطيع أن تحذف الشروط اللازمة لعمل الآلة بكل طاقتها وتضع مكانها الظروف التي تعيش فيها مريم كإنسانة وستجد أن ليس ثمة فارقا يُذكَر، فالضمان الاجتماعي يرادف الصيانة الدورية للماكينات والتدفئة الجيدة لمكتبها ترادف درجة الحرارة المناسبة للإنتاج واحترام ساعات الراحة وأيام الأجازات يرادف التشغيل السليم.. لطيفة لعبة التباديل والتوافيق هذه .. قالت "الآلة" مريم لنفسها.
***
أول ما شعرت مريم عنه بغربة في هذه المدينة الأوروبية كان طقسها الذي تتلاقي فيه فصول السنة الأربعة علي مدار اليوم، صحيح أنها واظبت على ارتداء الثياب المناسبة لكل فصل كما يفعل الجميع لكنها مثلهم اضطرت دائما أن تجهز حقيبتها الضخمة بمستلزمات الفصول الثلاثة الأخرى، وهكذا اعتادت أن تدس في حقيبتها الكبيرة سترة واقية من المطر ومروحة مصنوعة من الورق المقوي ونظارة شمس سوداء ودهانات للوجه ضد الحرارة ودهانات أخرى ضد الجفاف. لا يشبه تعاقب فصول السنة على مدار ساعات اليوم الواحد في شيء البيئة التي أتت منها مريم، ففي ضيعتها الصغيرة الصيف صيف والشتاء شتاء، صحيح أن الطبيعة تخرج أحيانا على نواميسها وتتمرد لتمطر في الصيف أو تزمجر في الربيع لكن هذا والحمد لله لا يحدث كثيرا. مثل هذا الاختلاف بين جو هنا وجو هناك صنع منذ البداية حجابا حاجزا أول بينها وبين مهجرها الأوروبي، أما الحجاب الحاجز الثاني والأهم فصنعه الفارق بين علاقاتها الإنسانية خلف باب المؤسسة التي تعمل فيها كمترجمة وبين علاقاتها الإنسانية خارج هذا الباب. هل يحتاج الأمر لبعض التوضيح؟ نعم يحتاج . في أثناء العمل يكون تفاعل مريم مع معظم زملائها على أعلى مستوى ممكن، فهي تتحدث أربع لغات بطلاقة وكثيرا ما يحتاج إليها العمل للتفاهم مع المترددين على المؤسسة ولولاها لتعطلت لغة الكلام. لكن ما أن ينتهي العمل حتى يمضي كلُ في طريق، فلا خروجات تجمعها مع زملائها، ولا دردشة عبر وسائل التواصل ولا تزاور أو اشتراك في مناسبات اجتماعية إلا فيما ندر، يُخَيَل إليها أنه بحلول الساعة الخامسة عصرا يفصل أحدهم التيار الكهربائي ليس فقط عن أجهزة الكومبيوتر لكن أيضا عن علاقات العاملين. هذا لا وجود له أبدا في ضيعتها فالتداخل بين علاقات العمل والقرابة كبير، وباب العمل دوار يُبَدِّل الداخلون منه ثيابهم أما علاقاتهم فلا، هناك يعمل التيار الكهربائي بكفاءة كبيرة على مدار اليوم كله حتى توشك الأجهزة العصبية أن تحترق، آه كم تشتاق مريم .
***
في المناسبات والأعياد تزيد وطأة الغربة على مريم، يمضي العمل في مؤسستها كالمعتاد وهي أيضا من المفترض أن تعمل، لكن يمكن لها أن تطلب أجازة ليوم أو بضع يوم لتحتفل بالعيد، جيد ألا تذهب للعمل في يوم العيد لكن إلى أين تراها تذهب؟ ليس سهلا أن تتجمع الأسرة في مكان واحد فالآن هم يعملون وليس معروفا إن كان العمل يدوم . في بعض الأعياد تقرر مريم أن تكافئ نفسها بجلسة على هذه الكافيتريا الشهيرة التي تطل على النهر، تختار مائدة تتسع لخمسة أشخاص: هي وأبواها ووليد ونچلا، ترفض بإصرار أن يسحب النادل أيا من المقاعد الأربعة التي لا يجلس عليها أحد مهما ازدحمت الكاڤيتريا، تطلب خمسة فناجين من شراب اللاتيه الذي تحبه أسرتها، ترشف الشراب الساخن بتلذذ وتتأمل حلقات الدخان الأبيض وتتقمص مشاعر الفرح حتي يمر صباح العيد
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع